في مُنتصف شهر أيّار الماضي، وبينما كان الكثيرون في إنتظار الإجراءات التصعيديّة التي هدّد رئيس تكتّل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون باتخاذها في حال المُضيّ قُدماً بمسألة التعيينات الأمنيّة، فاجأ "الجنرال" الجميع بطلّة هادئة، أطلق خلالها مبادرة من أربع نقاط كحلّ للأزمة القائمة(1)من دون أن تلقى أيّ إهتمام جدّي. وبعد إنقطاع لثلاثة أسابيع، عاد مجلس الوزراء إلى الإنعقاد من دون أن يُلبّي أيّاً من مطالب العماد عون، الأمر الذي ردّ عليه هذا الأخير باجتماع إستثنائي لتكتّله، وبالعودة إلى نبرة التهديد. فهل فعلاً تتجه الأمور نحو التصعيد وعرقلة الإجتماعات والقرارات الحكوميّة؟

بحسب المعلومات المُتوفّرة إنّ الإجتماع الذي عُقد يوم السبت في 27 حزيران الماضي بين رئيس المجلس النيابي نبيه برّي ورئيس الحكومة تمّام سلام كان حاسماً في تغيير دفّة المُواجهة، حيث تقرّر خلاله إعادة الحياة لكل من مجلسيّ النوّاب والوزراء، بمن حضر، وإذا لم يكن بالأسلوب السهل فبالأسلوب الصعب. وقد حرص الجانبان عند إنتهاء الإجتماع على عدم الحديث عن أيّ إتفاق، ولو حتى بالإيحاء، إلى درجة أنّ الأمانة العامة لمجلس الوزراء لم تُبلّغ أعضاء الحكومة بموعد جلسة الخميس إلا قبل 48 ساعة تقريباً من إنعقادها، بحيث ظنّ الكثيرون قبل ذلك أن لا جلسة قبل إنقضاء الأعياد.

ومع إنعقاد الجلسة الوزاريّة من دون إعطاء الأولويّة لمسألة التعيينات الأمنيّة، كما كان يُطالب "التيّار الوطني الحُر"، إضافة إلى الذهاب بعيداً في إسقاط القُدرة التعطيليّة التي كانت ممنوحة للوزراء بحجّة وراثة سُلطات منصب رئيس الجمهوريّة الشاغر، بات الواقع المفروض على العماد عون أكثر صعوبة، لجهة عدم الإكتفاء بتجاهل مطالبه، والذهاب بعيداً في تحدّيه في النقطة التي يبني كل معركته الحالية عليها، أي في ما خصّ مسألة الحقوق المسيحيّة وضرورة عدم تجاوزها من قبل أيّ طرف. وبحسب المُعطيات المُتوفّرة، فإنّ الأمور تتجه لمزيد من التصعيد في الأيّام والأسابيع القليلة المُقبلة، لأنّه لا يبدو أنّ تحذير "الجنرال"، لجهة ضرورة إنتباه الجميع "من خطورة أخذنا إلى الإنفجار"، قد بدأت تلقى آذاناً صاغية. والمُفارقة أنّ هذا الموقف المُتجاهل لمطالب "التيّار الوطني الحُرّ" لا يقتصر على خصوم العماد عون ضمن التحالفات السياسيّة العريضة القائمة في لبنان منذ عقد من الزمن، بل يشمل ركناً أساسياً من أركان قوى "8 آذار"، أي رئيس مجلس النوّاب الذي يعتقد الكثيرون أنّه لا يتحرّك سياسياً بمعزل عن مُوافقة ضمنيّة من جانب "حزب الله". حتى أنّ العديد من القوى السياسية تصف برّي بأنّه مرآة دبلوماسية رسميّة لمطالب "الحزب" إزاء العالم الخارجي، وبأنّه يقول ما لا يُمكن للحزب أن يقوله مُباشرة إزاء الداخل اللبناني.

وبغضّ النظر عن مدى مُوافقة "الحزب" عمّا يحصل من تجاهل لمطالب العماد عون، الأكيد أنّ رئيس الحكومة، وبغطاء من أغلبيّة وزاريّة واضحة، قادر على المُضيّ قُدماً في إتخاذ القرارات الحكوميّة التي تُسقط ما عُرف أخيراً بإسم "الربع المُعطّل"، وهي أصوات وزراء "تكتّل التغيير والإصلاح" و"حزب الله" الستة من أصل أربعة وعشرين وزيراً. وتحت شعار "الحفاظ على مصلحة اللبنانيّين" إصطفّ وزراء حركة "أمل" في الموقع المُقابل لوزراء "التيّار الوطني الحُرّ"، الأمر الذي سيُشكّل جرعة دعم لقرارات حكومة سلام.

ولأنّ المواعيد الزمنيّة باتت ضاغطة جدّاً، فإنّ "التيّار" لن ينتظر حتى أيلول لتصعيد الموقف، لأنّه عندها سيكون الوقت قد فات لإحداث أيّ تغيير في مجرى الأحداث المرسومة، خاصة وأنّ كلّ الترجيحات حتى تاريخه تتوقّع أن يتكرّر "سيناريو" تمديد خدمة مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء إبراهيم بصبوص بقرار وزاري من جانب وزير الداخلية نهاد المشنوق، مع قائد الجيش العماد جان قهوجي بقرار وزاري من جانب وزير الدفاع سمير مقبل، علماً أنّ المُرشّح الأبرز لهذا المنصب أيّ قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز يُحال على التقاعد إعتباراً من مُنتصف تشرين الأوّل المُقبل.

وفي الخلاصة، الأكيد أنّ قرار العودة إلى عقد الجلسات الوزاريّة قد إتخذ، والأرجح أنّ قرارات حكوميّة عدّة ستُتخذ بتصويت الأغلبيّة، بدلاً من الإجماع الكامل. وهذا يعني حُكماً أنّ العماد عون لم يعد يملك سوى الرضوخ للأمر الواقع أو التصعيد والمواجهة، والخيار الثاني هو الذي سيعتمده. لكن في حال عدم لجوء "حزب الله" المشغول كلّياً بمعاركه الإقليميّة القاسية والإستراتيجيّة، إلى خيارات ميدانية شبيهة بتلك التي إتخذت عند مُعارضة حكومة فؤاد السنيورة، فإنّ "التيّار الوطني الحُر" لن يكون قادراً وحده على وقف مسار يلقى تأييد مجموعات سياسيّة داخليّة عدّة، ومُباركة إقليمية ودَولية واسعة تحرص على بقاء الحد الأدنى من عمل المؤسّسات الرسميّة اللبنانيّة في ظلّ الأوضاع المتدهورة في المنطقة كلّها.

(1)خيّر العماد عون المعنيّين بين إجراء إنتخابات رئاسية مُباشرة من الشعب على مرحلتين، أو إجراء إستفتاء شعبي لتحديد الشخصيّة الأقوى، أو أن يختار المجلس النيابي بين الأوّل والثاني من الموارنة الأكثر تمثيلاً فيه، وإلا فالحلّ يكون بتنظيم إنتخابات نيابيّة وفق قانون إنتخابي جديد لتجديد السلطة السياسية وتحديد أحجام القوى فيها.