يرتقب العالم بأسره، وبخاصّة العالم العربيّ، الاتفاق النوويّ بين الولايات المتحدة الأميركيّة وإيران، وما يمكن أن يحدث من زلازل تغييريّة على مستوى مكنونات المنطقة من جيو-سياسيّة إلى جيو-استراتيجيّة بمكوناتها المؤسّسة لها. ويسطع الارتقاب في ظلّ عوامل بنيويّة أخلّت بمنطق الصراع العائد إلى ذلك المثلّث السعوديّ-القطريّ والتركيّ المنغرس في المدى المشرقيّ بانفعال دمويّ شديد، وطموح عنيف، رنا باتجاه اقتحام الخصوصيّات الذاتية لكلّ بلد في هذا الإقليم الملتهب، واستهلاكها في ظلّ رعاية دوليّة بحرب مذهبيّة طاحنة، وانقضاض على الأقليّات، وبخاصّة المكوّن المسيحيّ، وقد تأسّس المشرق العربيّ من جوهره، وكتب بلاهوته.

ويدرك معظم المتابعين والمرتقبين لهذا الحدث المنتظر، بأنّه ليس اتفاقًا تقنيًّا بقدر ما هو حراك تأسيسيّ جديد لهذا المدى بجغرافيّته. وقد أحسّ اللاعبون الكبار، بأنّ انغراس القوى التكفيريّة كأوراق تمّ الظنّ بأنّها تحصر بالتوظيف في التبويب الدوليّ للمنطقة ودوائر الصراع فيها، فإذ بها تأخذها باتجاه التجويف بعد أحداث الخلل المطلق في علاقة الخصوصيّات وجذبها نحو الصراع المرسوم لتدمير الشرق الأوسط القديم فيولد من رحم الركام شرق أوسط جديد، قياسًا للمنطق الأميركيّ خلال عهد الجمهوريين، (كوندوليزا رايس، ديك تشيني، وصولاً إلى جيفري فيلتمان). ومنطق التجويف المستند إلى سياق التبويب والتوظيف، وإن تسربل وشاحًا عربيًّا-خليجيًّا وإقليميًّا تركيًّا، إلاّ أنّه في جوهره الحقيقيّ، إسرائيليّ لا غشّ فيه، خادم لمنطق استقرارهم على حساب القضيّة الفلسطينيّة، وعلى حساب مسيحيي المشرق العربيّ على وجه التحديد، ولا بدّ من استذكار ما قاله كاتب يهوديّ كبير في صحيفة "يديعوت أحرونوت" وهو غاي بيتشر المؤرّخ بتاريخ 06-01-2015: "لقد انتهى عصر النفط الخليجيّ وبدأ عهد العقل الإسرائيليّ"، وقد قال في مقاله ما يلي: "... سوف يدرك الأوروبيون والأميركيون في غضون أسابيع قليلة الآن أنّ عهد القوّة العربيّة قد ولّى لأنّ دول الخليج لم يعد لديها من مال لتنفقه، بل وسوف تهتزّ هذه الدول من الداخل بفعل الاضطرابات الاجتماعيّة العرقيّة والإرهابيّة. ويمكن القول إنّ مؤشّرات انكفاء القوّة العربيّة باتت واضحة بالفعل".

هذا التراكم المنفجر في قلب الشرق الأوسط القديم، والتائق بظنّ كبير بأنّ الشرق الأوسط الجديد، سيولد من خطوطه السوداء ومساحته الحمراء، ما لبث أن تلاشى، فتحطمت الرؤى على صخرة الوعي الجديد بعد إدراك معظم الدول الكبرى اللاعبة في المحيط المتفجّر منذ 2011، خطورة تموضع القوى التكفيريّة المخلوقة منها في عقر دارها وقد تموضعت غير مرّة، والواقع بأن تنظيم "داعش" يعرف كيف ينقل معركته بزخم واضح من ساحة إلى أخرى، وقد دخل الساحة المصريّة من بوابة سيناء واليمنيّة من بوابة عاصفة الحزم السعودية، وأظهر اقتحام التنظيم المدى المصريّ قوة الموقف السوريّ ومتانته، قياسًا للمواقف العربيّة الأخرى فحدا بأمين عام جامعة الدول العربيّة نبيل العربي للقول بأنّه على استعداد للاجتماع بوزير الخارجيّة السوريّ ​وليد المعلم​ في التوقيت الذي يراه والمكان الذي بدوره يرتئيه.

لقد ذاق الجميع مرارة وخطورة ما تشكّله تلك الدمل السرطانيّة على المكوّنات العربيّة وديمومتها، وهي بدورها غير محصورة فيها في ظلّ معطيات ترسّبت وتسرّبت إلى عدد من العواصم الأوروبيّة وموسكو عن عمليّات انتخاريّة تقوم بها "داعش" و"القاعدة"، استكمالاً للعمليات في الكويت والسعودية وليون وتونس، وأخيرًا في سيناء في المعركة الطاحنة بين الجيش وارهابيي "داعش"، وصولاً إلى لبنان باكتشاف مخابرات الجيش والأمن العام، مجموعات إرهابيّة في مخيّم سوريّ في بلدة طليا شرقيّ بعلبك. جميع اللاعبين مستنفرون في حراك دائريّ ووجوديّ استباقًا لما يمكن حدوثه من تطوّرات خطيرة قد ترمي المنطقة في أتون مضطرم، وعادوا إلى منطق "الحرب على الإرهاب" وإن لم تتقارب المعايير بعد إلى حالة واحدة. لكن معظم المتعاطين في التحليل السياسيّ العالي يتوقّعون تدريجيًّا حسم الفوارق الواضحة بين المعايير في عملية الترشيد المتجانسة مع مفردات الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ وفلسفته في توطيدها التغييرات الجيو-سياسيّة المولودة من رحم المفردات غير المنظورة والمحجوبة والمستكينة خلف التعابير التقنيّة المحضة والجافّة في آن. وفي الوقت عينه إنّ العنصر الروسيّ المؤسّس والشريك للأميركيين لهذا الاتفاق والضاغط بوجود وزير الخارجية الروسيّ ​سيرغي لافروف​ في حلبة المفاوضات إلى جانب وزير الخارجيّة الأميركيّ جون كيري بات اليوم القاسم المشترك في هذا المشهد التوليفيّ والمتوازن. وينطلق الحراك الروسيّ من خيارين أساسيين:

خيار استراتيجيّ وجوهريّ وثابت يؤكّد بأنّ الحلّ السياسيّ في سوريا لن يستقرّ على الإطلاق إلاّ ببقاء الرئيس بشّار الأسد على رأس النظام مقابل حكومة وحدة وطنيّة تورد المعلومات بأنّ الرئيس الأسد موافق على إعطاء المعارضة حصّة أساسيّة فيها مقابل اعتراف معظم الدول التي احتربت مع النظام على أرض سوريا بشرعيّة الدولة السوريّة التمثيليّة وكإطار ناظم وضامن وضابط مؤمّن لديمومة البلد، مع الأخذ بعين الاعتبار بأنّ من يقاتل على الأرض السوريّة ليست تلك المعارضة الهشّة والمعطوبة والفاقدة للقدرة بمعناها الاستيعابيّ والانتخابيّ والميدانيّ وإن كانت مطلوبة في إرساء التسوية، بل تلك القوى التكفيريّة المرفوضة في سياق أيّ تسوية في الداخل السوريّ واستطرادًا في المدى المشرقيّ العام. وتظهر الاستطلاعات الأخيرة بأنّ الميدان من الجنوب السوريّ وصولاً إلى الحدود السوريّة-التركيّة متجه رويدًا رويدًا نحو الحسم من زاوية الرؤية الروسيّة الإيرانيّة الراسخة، والاتفاق الإيرانيّ-الأميركيّ، وسوريا كما العراق واليمن ولبنان جزء كبير من سياقه المترامي الأطراف.

وخيار آخر له بعدان، واحد أخلاقيّ تحاول ​روسيا​ فيه الحفاظ على كرامات الدول على اعتبار أنّها تتعاطى مع دول لها حضورها التاريخيّ في جوهره، وقد بدأت تتدحرج من البوابة اليمنيّة إلى الحدود السوريّة ضمن المخطط الإسرائيليّ المساهم في التدحرج (غاي بيتشر). وآخر سياسيّ واقتصاديّ تتموضع فيه موسكو في تواصل استثماريّ حيّ، تؤمّن فيه روسيا استمراريّتها في الشرق الأوسط.

وتسطع التجليّات تلك، ممّا تلمّسه وزير الخارجية السوريّ وليد المعلّم بلقائه رئيس الجمهورية الروسيّة فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف، وما كان ذلك بعيدًا من اللقاء الطويل الذي جمع وزير الخارجيّة الأميركيّ جون كيري إلى الرئيس بوتين خلال أربع ساعات ونصف ساعة. وتظهر الاستطلاعات الأخيرة أن اللقاء أفضى إلى مجموعة قناعات مشتركة، أسّست لشراكة فعليّة وتجسيديّة ومتوازنة في الحرب على الإرهاب والتأسيس من بوابة الاتفاق مع إيران لمشروع تحالف واسع ضدّ تلك التنظيمات التكفيريّة والتي أمست تملك القدرات الهائلة في القفز فوق الخطوط الحمراء المرسومة، متكلة على اقتصاد بات ذاتيًّا مستندة به على النفط بالتحديد. وتشير بعض المعلومات إلى أنّ الأميركيين بدأوا يضغطون باتجاه تجفيف ينابيع التمويل وتخفيف التعاطف مع تلك القوى والعمل على منع تسليحها، وما الخطاب الأميركيّ في قمة "كامب ديفيد" سوى ترسيخ لتلك العناوين والتشجيع للحوار الخليجيّ-الإيرانيّ وهذا ما يقوم به ولي العهد السعوديّ الأمير محمد بن سلمان من قراءة نقدية واضحة.

المحصلّة النهائيّة، إن سوريا ستتجّه إلى مجموعة انفراجات تنطلق من الميدان إلى الطاولة. وبدلاً من الكلام في مشروع الشرق الأوسط الجديد المبنيّ على خطوط سياسيّة جديدة ناسفة لـ"سايكس-بيكو"، رأى الأميركيون بأنّ تغيير هذا الخط لم يحن أوانه، وتاليًا، إنّ استخدام الأوراق التكفيريّة سيفجّر الأمن العالمي وقد بدأ التفجير يتوسّع شيئًا فشيئًا. الكلام عاد من الأرض السوريّة إلى حل سياسيّ تبقى فيه الدولة حجر الزاوية مع حكومة وحدة وطنيّة تكون المقدّمة لإرساء حلّ سياسيّ، وهذا أقصى ما يمكن أن يقدّمه الرئيس ​بشار الأسد​ وفق معلومات راسخة. الاتفاق بين أيران وأميركا سيعيد للمنطقة توازنها بدم جديد يكون الجميع شركاء في العمل السياسيّ الرصين، ولبنان في قلب تلك الرؤية.