إن من يلقي النظرة على شريعة الصوم في متون الأديان السماوية يجد لغة البداهة في هذا التشريع مما يعبر عن ضرورة إنسانية قاضية بوجوبه على اتباع الأديان بغض النظر عن كيفيته عند المسلمين وهو الكف عن المفطرات الشرعية، وعند المسيحيين الكف عن (الزفرين) كما يعبّر عنه في ارشادهم الديني مع فارق التوقيت بين الديانتين كما هو معروف، وهذه الضرورة تنبئ عن المصلحة التي يرجوها المشرِّع وهو الله تعالى لعباده، فإذا نظرنا من هذه الزاوية إلى طبيعة تشريع الصوم الضرورية أمكن أن نثق بالتزامنا به دون مزيد من البرهان حول ضرورته وفوائده التربوية من خلال تربية الإرادة الواعية او الصحية كما هو مدرجٌ عند أصحاب الاختصاص من الأطباء وأخصائيي التغذية.

ولكن ما يهمنا الآن وقد وصل ​شهر رمضان​ إلى منتصفه أن نسلط الضوء على شريعة الصوم في الإسلام، إذ أن الأسئلة كثيرة والاستفهامات كذلك بل قد ترقى إلى درجة الاستهجان والاستفسار عن مبرِّر هذا الحكم الشرعي الديني الذي يلزم الصائم بالكف عن تناول كل شيء حتى لو لم يكن مأكولاً عادة كالتراب مثلاً، وقد يوصف بأنه مبالغ فيه، ثم يقال بعد ذلك بأنه فوق طاقة الإنسان أو لا داعي له ما دامت العبرة بالمقاصد التي تأخذ عناوين تحليلية شخصية مثل تربية الإرادة والحفاظ على الصحة وغير ذلك، فإذا وفرها الإنسان لنفسه فلا داعي لممارسة الصوم الإسلامي، وهكذا يقال للصلاة وغيرها من عناوين العبادات التي نسمع هذا التحليل في حقها ممن ينادي بالفصل الزماني للتشريع وضرورات الزمان والمكان، مما يحوِّل الكثير من الثوابت في التشريع الديني إلى متغيرات بحسب وجهة النظر تلك.

ولكن المسألة ليست بهذه البساطة من النظرة إلى التشريع الديني، لأنه إذا سلمنا بالمقدمة التي تقول بأن لغة النص المقدسة المعبّر عنها بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (سورة البقرة، الآية 183)، التي تتضمن مفردات البداهة والضرورة كما تقدم، فإننا لا بد أن نحترم عقولنا والرضوخ لهذه النتيجة التي تثبت الوجوب على كل من يتدين بدين الإسلام بأن الصوم كما وردت كيفيته كذلك بالنص، وعليه فالمسألة ليست من باب التحليل الشخصي حتى لو لبس ثوب التحليل العلمي والنظري الذي يقف حاجزاً أمام قداسة النص التي تنفي حجيَّته وبداهة وجوبه، وهو المقدمة الآنفة الذكر، التي ينبغي أن يدور النقاش حولها لا فيما بعدها، وهو الخطأ الشائع عند أكثر من حاول التمرُّد على ثوابت التشريع الديني.

وعليه فإننا إذا سلمنا بضرورة وجوب الصوم نعلم كم هي المصالح الواقعية الحاصلة التي يريدها الله للعباد، وهنا أقف امام مسألة مهمة جداً من آثار الصوم الإسلامي ألا وهي مسألة تربية الإرادة الواعية وأقف عندها دون التطرق إلى بقية الفوائد، مع أهميتها لأنه باعتقادي بأن تربية الإرادة الآنفة الذكر هي أهم ما تنتجه عملية الصوم.

وعليه نقول: إن الإنسان بطبيعته وبعده المادي في إدراكاته أي إمكانية تطور الصفات المادية الشخصية والمجتمعية مثل حب التملك والتطور المادي والمعنوي والاستئثار بالثروات – كما هي ممارسات المستعمرين قديماً وحديثاً – بل في إمكانية تبرير ظلمه للآخرين لأجل سلب الحقوق والإمكانات المادية، هذا الإنسان يحتاج إلى عملية تروِّض له التفكير السليم والإرادة الواعية لأجل أن يمثل خلافته لله على الأرض خير تمثيل، وأفضل طريقة هي ترويض نفسه على المعاناة من خلال كفِّه عن المفطرات التي تجعله في حالة يدرك فيها ضعفه وبالتالي تدركه ايضاً رهافة الحس ويقظة الضمير، وهو مؤدى ما ورد عن النبي(ص): "ليدرك الغني مسَّ الجوع فيحنو على الفقير"، فإذاً ادراك الغني دليل على ادراك الفقير أيضاً لبداهة إشتراكهما في وجوب امتثال الصوم، فالإشارة هي إلى نفس الطبيعة البشرية التي تتأثر بالصوم، وعليه فإن الإرادة الواعية هي أول ثمرات الصوم، تلك الإرادة التي يجب دائماً أن تتعرَّض إلى التنمية مما يؤدي إلى النظر إلى الأشياء بمزيد من العدل والإنصاف، وهذا ما نراه ونلمسه من احوال الصائمين حيث بسبب ادراك الضعف البشري فإنهم يقنعون في المعاملات بأقل الشروط ويتساهلون فيها وتتسامح أخلاقهم فيما بينهم وهكذا، ونلمس السهولة في المنطق والحوار الذي تظهر فيه سمات الاشعاع الانساني.

ولقائل أن يقول: بأن الواقع يشهد بضيق المزاج والميل إلى تمرير الوقت النهاري بالنوم واللهو وغير ذلك، وللإجابة نقول ان هذا هو الممارس عملياً في الواقع المعاش، فهو وإن كان جائزاً شرعاً، ولكن ليس ما هو المرجو ثمرته في حق الصائمين، فإنه في حالة ضيق المزاج فإن الامر سببه الوهم الحاصل من التعوُّد على تناول المفطِّر كلما اشتهت النفس ذلك، وليس وراء ذلك الوهم شيء في الواقع العضوي والفيزيولوجي للإنسان فإذا كان الفرد الإنساني بحاجة إلى ألف وخمسمائة إلى ثلاثة آلاف وحدة حرارية ونعلم علم اليقين بأن هذه الكمية قد تأمنت من خلال وجبة الإفطار فقط فضلاً عن حاجيته إلى كمية السوائل التي لا تتجاوز ثلاثة ليترات وهو كذلك يتناولها، فإننا نعلم وندرك هذا الوهم إلى الحاجة إلى المفطر اثناء النهار وهذا الوهم هو الذي يسبب ضيق المزاج المدَّعى.

فالواقع المعاش الذي حوَّل الشهر الكريم إلى شهر النوم والتسلية وتعطيل الدوائر في الوقت الإضافي، وإلى شهر تجاري بامتياز تبرز فيه دعايات المطاعم بل الحفلات التي قد تكون ماجنة أحياناً!!!، هذا الواقع هو خلاف المأمول من تشريع الصوم، ولذلك النصيحة للصائمين هي أن يزيدوا أوقات عملهم ويزيدوا من الأعمال لأن معاناة الصوم لا علاقة لها بالحاجة البشرية المعتادة.

وبالتالي فإذا اقترن العمل بالصبر نكون قد ربَّينا أنفسنا على تحمّل المعاناة اثناء العمل، وهذا ينتج فرداً منتجاً وأمةً منتجةً ناجحةً وقويةً بقوة عزيمة ابنائها، والصوم هو دورة سنوية للفرد والمجتمع إذا أحسن امتثاله فلا ينبغي أن نفوت الفرصة.

فهلاَّ انصفنا انفسنا بهذه النصيحة المتقدم ذكرها حتى نلمس المعنى مما جاء على لسان النبي(ص): "لو علمتم ما فيه من الخير لتمنيتم أن يكون الدهر كله".