في دقائق معدودة، فرط أربعة أطراف مسيحيين في الحكومة عقد برّي. في حساباتهم، عندما يتعلق الأمر بصلاحيات الرئيس الغائب لا عقود ولا استثناء... قد يكون ذلك أشبه بحلمٍ مسيحي طويل، ولكنه حدث فعلاً على تواضع مفاعيله داخل حكومة المصلحة الوطنية.

لم يغرّد أحدٌ من مسيحيي الحكومة خارج السرب هذه المرة (باستثناء وزير المستقبل نبيل دو فريج)، فكانت وحدة على ما بدت وكأنها محاولة لاستعادة الدور المنزوع بالقوّة. الرابية بادرت الى الرفض، فانضمّ اليها حزب الكتائب ووزراء الرئيس السابق ميشال سليمان ومعهم الوزيران المستقلان لتكون النتيجة الأوليّة سقوط مرسوم العقد الاستثنائي لمجلس النواب رغم كلّ محاولات برّي التخفيضية التي وصلت الى مستوى الأكثرية المطلقة والنصف زائد واحد.

حرصٌ... وانتقام

هو الإجماع المسيحي الأوّل تقريبًا داخل حكومة الرئيس تمام سلام. إجماعٌ ظاهره نتيحة واحدة أما خلفيّته فأسبابٌ متفاوتة أثمرت إجماعًا مسيحيًا كان حكيم معراب يؤيّده من خارج معترك السلطة. لم يكن أمام عون السماح لبرّي بتحقيق غايته على حساب المسيحيين متجاهلاً عدم وجود رئيس، وهو ما قاله الرجل صراحة عقب اللقاء الاستثنائي في الرابية أمس الأول. هذا الحرص المسيحي على عدم التمادي في التصرّف وكأن غياب الرئيس كوجوده ترافق مع حساباتٍ عونية شخصيّة تقدّمها هاجس “الانتقام” من صفعاتٍ عدّة وجهتها عين التينة الى الرابية وليس آخرها سوى المناداة بتسيير أمور البلاد تنفيذيًا سواء وافق التيار أم لم يفعل أيًا كانت الملفات المطروحة. غيضٌ من فيض القلوب المليانة بين الرجلين بدءًا بملف المياومين مرورًا بالنفط وصولاً الى التمديدات المتعاقبة وتعطيل المجلس الدستوري لإسقاط الطعون.

أكثر من ذريعة

تختلف حسابات عون عن تلك التي يفكّر فيها الرئيسان السابقان أمين الجميل وميشال سليمان. لم يكن الرجلان ليأخذا على نفسيهما أن يصوّتا لصالح العقد الاستثنائي، فيما يبدو عون وحده ظافرًا بإنجاز الدفاع عن المسيحيين وحقوقهم. تمسك فريقا الرئيسين بأكثر من ذريعة ليقولا “لا” صادمة في وجه برّي وليشكلا ميزان خسارة الأصوات الـ13 المطلوبة للتوقيع على المرسوم: أولاً، لا يمكن أن يسقطا كرجلين اختبرا الرئاسة الأولى في فخّ “تغييب” رئيس البلاد وتجاهل صلاحياته ودوره والذهاب الى توقيع مرسوم تحويل المجلس من هيئة ناخبة الى عقد استثنائي فيما دوره في الحقيقة الالتئام حصرًا لانتخاب رئيس. وأبعد من ذلك، فكّر الجميل وسليمان جيدًا بردّة فعل الشارع المسيحي التي ستكون في غير صالحهما إذا ما أقدما على “حماقةٍ” مماثلة، فيما ينتشي عون وجعجع بعلاقتهما الورديّة وبصدى قراراتهما المشتركة خصوصًا على مستوى الشلل البرلماني الذي يُعتبران أساسيَّين فيه أقله لجهة ضرب مفهوم “تشريع الضرورة” عرض الحائط. ثانيًا، يقرأ الرجلان دستور بلادهما جيدًا. صحيحٌ أن الأخير لا يحمل نصًّا صريحًا يقول إن المرسوم الاستثنائي هو صلاحية محفوظة لرئيس الجمهورية وحده، إلا أنه في المقابل لا يقرّ باستعجال الدعوة الى العقد الاستثنائي ولا يرتقي به أمرًا ملحًا غير قابل لانتظار انتخاب رئيس. هي الأسباب نفسها الكفيلة بدفع الوزيرين المستقلين بطرس حرب وميشال فرعون الى التماهي مع الجوّ المسيحي العام.

لا خشية من الوحدة

ربّما لم يكن ما حدث في الحكومة من وحدة مسيحيّة بمثابة قنبلةٍ موقوتة بقدر ما سعى العونيون الى تظهيره على أنه “كسرٌ” لكلمة بري “ومحاولات نهشه كلّ الصلاحيات والإقدام على أي خطوةٍ من شأنها تفعيل مجلسه حتى لو كان ذلك على حساب حقوق المسيحيين ومن يمثّلهم في السلطات الثلاث”. لم تمرّ الأمور بسلام هذه المرة، فحتى رئيس الحكومة المسالم خرج مغتاظًا من الأداء التعطيلي الذي انطلى على أكثر من طرفٍ ودفع التيار الى الإشادة بأداء الكتائبيين والسليمانيين. أداءٌ لا يبدو أن هناك خشية كبيرة لدى عارفي الأطراف المسيحيين من أن تتسع رقعته الى ملفاتٍ أخرى ليقين هؤلاء بأن حلم الوحدة المسيحية صعب المنال وليس استمرار الشغور سوى خير شاهد.

سؤالان مُحرجان

ليس العتب على إسقاط محاولات برّي واستماتة وليد جنبلاط و”المستقبليين” في الدفاع عنه من طرف واحد. فهؤلاء أيضًا ينظرون الى مسيحيي الحكومة بعين الريبة والاستغراب من استنسابهم الدستور وحقوق المسيحيين. لا يتردد هؤلاء بنوابهم ومصادرهم في الهمس في كواليسهم الضيّقة وفي آذان بعض الصحافيين ببعض الممارسات المسيحية المتناقضة التي تُضعِف موقفهم من قبيل التساؤل: كيف يحتفل هؤلاء بطرد شبح العقد الاستثنائي حرصًا على مقام رئيس هم أول من يساهم في تأخير انتخابه؟ ثمّ لمَ لا يطبّقون وحدتهم المزعومة تلك على الشغور بالتوجّه الى مجلس النواب لانتخاب رئيس؟ سؤالان مُحرِجان في الظاهر لجميع الاقطاب المسيحيين، وخلاف ذلك باطنًا بالنسبة الى عون وجعجع اللذين يمضيان بهدوء وسلاسة في نواياهما، ويغيظان كلّ من يراهن على هشاشة غزلهما، ويتفقان عندما يأتي الأمر على تشريع في غياب الرئيس أو جلسةٍ لا يُطرَح فيها قانون الجنسية، أو حتى قرارات تنفيذيّة لا تعني معراب في الصلب بحكم غيابها عن الحكومة إلا أنها تعنيها في المبدأ بحكم أنها طرفٌ مسيحيٌّ قوي يراهِن على رئاسةٍ قويّة ويُراهَن عليه في الرئاسة القوية.

عقد مسيحي استثنائي

قد لا تقول هذه الوحدة الكثير في قاموس معظم اللبنانيين، ساسةً وشعبًا، والدليل على ذلك أنها لم تأخذ أكثر من حجمها. لم تعدُ كونها قرارًا مشتركًا صودِف التصويت عليه مسيحيًا بالرفض. لم تكن لها رهجة ككلام عون وجعجع وسلامهما، ربما لأن هؤلاء المقزّمين أنفسهم يعرفون أن المسيحيين عندما “تحزّ الحزيّة” خير من يجيد التفرّق وإلا لكان ملفّ التعيينات غير عالقٍ اليوم ولما اضطر سلام الى الدعوة بحذرٍ الى جلسةٍ الخميس المقبل من دون أن يعرف أحدٌ السيناريو الذي سترسمه الرابية لها. في انتظار انجلاء المشهد الحكومي الذي ستسبقه اتصالاتٌ مكثّفة، يستكمل الأفرقاء المسيحيون بعض الخطوات التي ما هي إلا “شطحات” على درب استعادة دورٍ ما يحتاج الى ما هو أبعد من فرط عقدٍ استثنائي... يحتاج الى عقدٍ مسيحي استثنائي باسترجاع الحقوق أيًا كانت التنازلات، حتى لو تتطلّب منهم ذلك إقناع بكركي بنفضةٍ تُرعِبها لمجرّد انها تحمل تسمية “مؤتمر تأسيسي”.