بموازاة التوسع الجغرافي للتطرف الاسلامي، و"الانجازات" الميدانية التي حققها تنظيم "داعش" في الأشهر الماضية، اهتمت عواصم القرار الدولي بظاهرة تمدد هذا التنظيم. ما مدى التأثير الشعبي الذي يتمتع به؟ وما هو مستوى التعاطف معه؟

استطلاعات للرأي أجراها كل من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى ومعهد الدوحة لدراسة السياسات ومعهد دراسات الادارة والمجتمع المدني، تركّزت على اربع دول، فتبين ان هناك 8,5 مليون شخص يؤيدون هذا التنظيم بقوة، بينما تخطت اعداد المتعاطفين أربعين مليون شخص. السؤال كان محصورا حول "داعش" حصراً، لا المجموعات المتطرفة الاخرى المشابهة للتنظيم.

تلك الأرقام أربكت دولا عربية: ما العمل لمحاربة "داعش" ووقف تمدده؟

التنظيم حقق أهدافا عسكرية بين حزيران 2014 وايلول منه بشكل سريع. فرض سيطرته على 11 مدينة في العراق كالموصل وبيجي وتكريت والحويجة. واستولى على مراكز عسكرية مهمة واستراتيجية وأسلحة ثقيلة استخدمها في توسعه على الارض السورية. هذا التمدد أقلق الأردن ودول الخليج بصورة أساسية، انطلاقا من امكانية تكرار التنظيم الإرهابي لما فعله في سوريا والعراق. لا موانع في ذلك.

لم تنجح عمليات "التحالف الدولي" في الحد من توسع التنظيم. وحدها الضربات الجوية حققت أهدافها حيث توافرت القوات البرية التي تقاتل "داعش"، كما يحصل في المناطق الكردية.

معهد الدراسات الحربية (isw) استنتج ان "داعش" يلجأ الى تحويل الانتباه الى خارج العراق وسوريا من اجل تخفيف الطلب على الدفاع في الداخل. هذه التحويلات تتضمن اعلان الهجمات المذهلة في دول اخرى وإطلاق حملة رسائل عالمية من اجل استقطاب الشعوب وجعلها تميل نحو التطرف والراديكالية. المعهد نفسه قال ان "داعش" سيبقى خطرا على الدول التي تتماثل للشفاء حتى وان اختفى، وسيبقى يقاتل في حملة على شكل مبادرة عبر مجموعة من العصيانات. الأخطر بحسب ما ورد في تقرير معهد الدراسات الحربية انه يمكن لهذا التنظيم ان يندفع ويتوسع بشكل أوسع نحو العمق السوري ويتوجه نحو لبنان وتركيا، اضافة الى امتلاكه مبادرة في مكان آخر من خلال ولاياته في سيناء وليبيا واليمن ومكة المكرمة والمدينة المنورة والجزائر وخراسان. كلها جزء من استراتيجيته الدفاعية من اجل تجنب الفشل الاستراتيجي.

سيوسّع "داعش" من عملياته للتوصل الى بيئة الفوضى الإقليمية، وهي لعبة طويلة من اجل الحفاظ على خلافته في مواجهة النظام الدولي. المعهد ذاته يقول ان "داعش" بدأ بإرسال رسائل الى دول اخرى في المنطقة وهي يمكن ان تتأثر بتلك الرسائل. شنّ هجوما على حراس الحدود العراقيين بالقرب من السعودية والأردن وعلى الحدود الثلاثية بينهما. التنظيم قام بعبور الحدود السعودية وحرق الطيار الاردني وشن هجماته في سيناء مصر من ضمن رسائل تتعلق بتوسع الخلافة نحو مكة والمدينة والقدس. المملكة العربية السعودية بدأت عمليا بمواجهة التنظيم. عملية الدهم في الطائف دلّت على تلك المواجهة.

بحسب المعهد المذكور يزيد التنظيم توسعاً وجودُ ولاياتٍ على مسافات كبيرة تسمح له بتوجيه تهديدات على جبهات متعددة للدول المجاورة كالاردن والسعودية ومصر، ويمكن ان تشمل تركيا بتحسن وضعه في القوقاز.

كل مشاريع مواجهة تمدد "داعش" تتطلب قوات برية في كل مكان. قتال الأكراد شمال سوريا او الجيش المصري في سيناء نموذجان. لا تكفي الهجمات الجوية لتحقيق أي إنجاز في منع التنظيم من النمو في سوريا، ما يعني الحاجة الى الجيش السوري واراحته من معارك مع القوى المسلحة الاخرى.

تدمير المدن او تهجير السكان يستثمره "داعش". الاستنتاج الأهم للمعهد هو في توصية اعادة الإعمار في سوريا والعراق كجزء من مهمة المواجهة، ومنع التصعيد الجانبي بين الدول العربية وإيران في مكان اخر من المنطقة الذي لا يستفيد منه الا "داعش".

التنظيمات الإرهابية تستفيد من المهجّرين وهشاشة الدول، ما يعني ضرورة اعادة الاستقرار الى سوريا والعراق تدريجيا كجزء من مشروع وقف تمدد "داعش" نحو الدول الاخرى. هنا يستوجب الاستقرار دعما عربيا كاملاً.

الخشية ليست محصورة بالمواجهات المفتوحة على الارض ضمن معادلة: الجيوش العربية ضد الجيش الاسود(داعش)، انما الخطورة تكمن في داخل المؤسسات العسكرية، في حال وجود متعاطفين عسكريين في مصر او السعودية او الأردن او غيرها. البيئة الحاضنة للتطرف تستولد تعاطفا من هذا النوع. عندها ستكون المواجهة أصعب. ماذا لو فجّر انتحاري عسكري مؤيد للتطرف نفسه بين زملائه؟ او صوّب جندي متعاطف مع "الدواعش" النار على رفاق السلاح؟ الأهم: ماذا لو كانت "داعش" طيلة هذه الفترة تبني ميلشيا لها داخل كل جيش في كل بلد عربي او إسلامي؟ تلك أسئلة مشروعة تستوجب الحذر الشديد على وقع تدحرج كرة ثلج التطرف.

ما حصل مثلا في سيناء خطير جدا. توصيف الصحافة الاسرائيلية كان الاكثر دلالة: في سيناء تعمل قوة مسلحة ومنظمة بمستويات شهدناها في افغانستان. وليس الحديث هنا عن بدو مسلحين هاجموا هنا أو هناك مواقع عسكرية مصرية أو ألحقوا الاضرار بأنبوب الغاز. الحديث يدور عن بدو مصريين يحملون ايديولوجيا جهادية، وغرباء استقروا في سيناء وتحولوا في الاشهر الستة الاخيرة الى جسم عسكري ممأسس.

القضية هي في البيئة الحاضنة. اساسا يتميز "داعش" عن تنظيم "القاعدة" بعامل البيعة الجماعية وليس تأهيل الفرد كأساس. انه كالمرض المعدي يستخدم الأساليب الدينية كمدخل مستغلا الفقر والعوز والتهميش الاجتماعي. تلك الوقائع توحي بإمكانية توسع "داعش" سريعا في كل المساحات التي يتواجد فيها مسلمون.

اذا كانت اللعبة المذهبية تعرقل جوهر المواجهة العراقية، فإن مشروع تأسيس قوات سورية مسلحة "معتدلة" سقط. لا فرق بين "داعش" و "جبهة النصرة". الاصل والنهج والهدف واحد. لن يكون الحل العسكري منتجاً الا بدعم الجيش السوري رغم انهاكه بمعارك على اكثر من 650 جبهة على مساحة الارض السورية، يمكن لها ان تنتهي بوقف الدعم العربي المالي والتسليحي والتوجيهي والتحريضي لمسلحي "القاعدة" ("جبهة النصرة") و"الجيش الحر" ضد النظام السوري. عندئذ يتفرغ الجيش لمواجهة "داعش" فيقارع التنظيم ويستنزف قواه، فينشغل "داعش" في دير الزور والرقة دفاعاً عن قلب "دولته" بدل التفرغ للتمدد نحو دول اخرى. هنا تكمن المصلحة الحقيقية لمصر وكل الدول الخليجية.

تبين لداعمي المعارضة السورية ان المكاسب الميدانية لا تحققها "القوات المعتدلة"، بل "داعش" او "النصرة". فلنستحضر ما حصل في درعا في الأسابيع الماضية. أصيبت "عاصفة الجنوب" بهزيمة مدوية، رغم ان من كان يديرها هي غرفة "الموك". هم الأميركيون والأردنيون بعد انسحاب السعوديين والأتراك من الغرفة. هذا دليل إضافي على فشل المسلحين "المعتدلين". هم اضعف من اتخاذ قرار او خوض اي معركة ضد "داعش".

في الشمال السوري كانت القيادة التركية تتلقى الضربات حول سياساتها، ما سيجبرها على تغيير مسارها تجاه دمشق. جاءت نتائج الانتخابات تفرض الائتلاف الحكومي التركي. في كل السيناريوهات تشترط القوى التركية المناهضة لحزب "العدالة والتنمية" تغييراً في التعامل الحكومي مع الازمة السورية. الضربة الاكثر ايلاماً لانقره كانت من خلال توسع الكرد على الحدود التركية. اذا كانت القيادة التركية تستخدم او تستفيد من وجود "داعش"، فإن خطراً سيطل على تركيا جراء تقبل هذا التنظيم.

بالنسبة الى الدول الغربية، الخطر لا يقتصر على المصالح في الثروات الطبيعية او النفوذ. فلندرس البيئة أيضاً التي انتجت إرهابيين او انتحاريين "دواعش". بريطانيا التي كان لها دور تاريخي بإحتضان وتوظيف الإسلاميين باتت قلقة جداً. باريس تخشى ازدياد اعداد الإسلاميين. في المانيا حملة متواصلة ضد المسلمين. الأخطر ما تعيشه ايطاليا جراء الهجرة غير الشرعية. تلك قنابل موقوتة كما وصفتها الصحافة الاوروبية. اذا شعر المهاجرون المتعاطفون مع "داعش" بقوة التنظيم وادعاءاته الاسلامية سينتفضون ويطيعون أوامره. القضية ليست عابرة. فلننظر الى القوقاز وجنوب الصين وأفريقيا التي تشكل نيجيريا فيها نموذجاً لإمكانية توسع "الدواعش". العالم كله معني بالمواجهة. بدأت العواصم تدرك ذلك.

بالتزامن تجري الآن تسويات تاريخية جانبية: تواصل أميركي - إيراني قائم على اساس التفاوض النووي. هنا تحقّق كسر القطيعة القائمة بين البلدين منذ عام 1979 قبل ان تتظهر نتائج المفاوضات.

حلول تدريجية للازمات المتراكمة بين دول أميركا اللاتينية وواشنطن. تجري التسويات برعاية الفاتيكان الذي يعيد فتح الكنائس كما حصل في كوبا. لتلك الخطوات دلالات واضحة. الكنيسة الكاثوليكية تقدمت بخطوات تقاربية عملية تجاه باقي الكنائس وخصوصا المشرقية، منها طرح البابا توحيد عيد الفصح المجيد. الفاتيكان عبر عن خشية مما يجري في الشرق. أوصى بعقد قمة في دمشق نجحت في ترتيب الأولويات وترسيخ ثوابت المسيحيين القائمة على اساس البقاء في الارض وعدم الهجرة، لأن ترك المنطقة يساهم في تمدد التطرف الاسلامي على حساب الاعتدال الاسلامي والوجود المسيحي.

كلها إشارات ضاغطة على العواصم الدولية او مشجعة لتغيير السياسات تحديدا تجاه سوريا. محاربة التنظيم في هذا البلد تحدّ من توسعه اقليميا ودوليا.

رصدت العواصم تراكم الاحداث والمؤشرات. كانت موسكو الأسرع بطرح مبادرة توحيد الجهود لتأسيس تحالف ضد الارهاب. لمس الوفد السوري الذي زار روسيا منذ ايام جدية الرئيس فلاديمير بوتين الذي استند الى وقائع ورسائل مباشرة او مبطنة من السعودية وتركيا لاستيلاد مشروع التحالف ضد الارهاب. يعرف الرئيس الروسي ان ركيزة التحالف هما سوريا و السعودية. متى تُحل ازمة العلاقة بين البلدين يقطع المشروعُ معظمَ طريقه. فهل نكون امام عودة معادلة السين - سين؟ هناك مطبات كبيرة لكن الهواجس جرّاء تمدد "داعش" الى الخليج كفيلة بإزالة تلك المطبات. قد يحتاج الامر لوقت. لكنه سيفرض نفسه عاجلا او آجلا.

بوتين على تواصل دائم مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. كانت تصله مخاوف أوروبا من نمو التطرف الاسلامي. حادثة ليون زادت من الهواجس الاوروبية. يريد بوتين ان يحمي مصالح بلاده في الشرق ويمنع تضخم التطرف الاسلامي في القوقاز. لا يمكن لواشنطن الوقوف في وجه المشروع الروسي. قد تعرقل واشنطن بعض الخطوات احيانا لتحسين الشروط، او تراقب تورط روسيا في المواجهة. في كل الحالات لا مشكلة عند الولايات المتحدة الاميركية إزاء جوهر المشروع الروسي.

عوامل إضافية تحل سريعة على المشهد، كما في تفجير المسجد في الكويت وقبله في السعودية او استهداف السياح في تونس. جميعها صارت تفرض على العواصم وجوب تغيير سياساتها لإنشاء تحالف ضد التطرف الاسلامي. والا فالنتيجة ضم "داعش" الأردن و السعودية ومصر وكل دول الخليج و ليبيا وتونس وصولا الى القوقاز الى الخلافة الداعشية. هذا ما ظهر في المبايعات وسرعة التمدد الشعبي. الدليل نتائج تلك الدراسات التي أجرتها مراكز الأبحاث. من هنا يمضي بوتين في مشروعه حتى تحقيق التحالف المطلوب.