بغضّ النظر عن الفترة الزمنيّة القصيرة التي لا يزال يحتاجها الإتفاق الإيراني-الغربي بشأن إتمام تفاصيل ملفّ الإتفاق الغربي-الإيراني، وبغضّ النظر عن بعض الشكليّات القانونيّة الخاصة بتصويت كل من "مجلس الشورى الإيراني" والكونغرس الأميركي على هذا الإتفاق، وكذلك الشكليّات الخاصة بآليّة رفع العقوبات التي كانت تفرضها الأمم المتحدة وبعض الدول الغربيّة، فإنّ مرحلة جديدة ستبدأ خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، بحيث يصحّ القوّل إنّ ما قبل الإتفاق مع إيران ليس كما بعده. وفي هذا السياق، وفي جوجلة لآراء العديد من الخبراء الغربيّين الذين تابعوا ملفّ المفاوضات النوويّة، يُمكن تسجيل الملاحظات التالية والتي ستصبح قائمة ميدانياً بمجرّد إتمام حفل التوقيع.

أوّلاً: سينعكس الإتفاق المُرتقب إيجاباً وبشكل كبير على الواقع الإقتصادي والمالي في إيران، حيث سيتمّ تحرير كل أنواع الحظر على أموال وودائع الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية في المصارف العالميّة، الأمر الذي سيُنقذها من ضائقتها الماليّة. وسترفع إيران من مستوى إنتاجها النفطي بنحو أربعة أضعاف بعد السماح بدخولها كلاعب أساسي في هذا القطاع. كما أنّها ستعود إلى تفعيل قطاعاتها الإنتاجيّة والصناعيّة، وفي طليعها قطاع السيارات، الأمر الذي سيعود عليها بأرباح مالية طائلة. ومن بين الإرتدادات الإقتصاديّة والتجاريّة المُنتظرة، توقّع توظيف مليارات الدولارات من الإستثمارات الأجنبيّة في مشاريع عدّة في إيران، الأمر الذي سيُحوّل هذه الأخيرة إلى قوّة إقتصاديّة إقليميّة كبيرة وفعّالة مُرتبطة بمصالح حيويّة مباشرة مع شركات أوروبية وغربيّة مُتعدّدة. وبفضل تحرّر إيران القريب من ضغوط العقوبات، وتوقّع تمتّعها بفائض مالي في المُستقبل القريب، فإنّ قُدرتها على دعم حلفائها في المنطقة ستزداد تباعاً بطبيعة الحال.

ثانياً: سينعكس الإتفاق إيجاباً وبشكل كبير على الحضور السياسي الإقليمي والدَولي لإيران، بحيث ستعود إلى الساحة العالميّة كلاعب فعّال ومُؤثّر، وليس كرمز من رموز الدُول المغضوب عليها والمُعاقبة والمنبوذة من أغلبيّة المُجتمع الدَولي. وبالتالي سيكون حضورها حتمياً في مختلف المؤتمرات الدوليّة، وستكون كلمتها مسموعة أكثر من أيّ وقت مضى. لكنّ التقارب الإيراني-الغربي، لا سيّما التقارب الإيراني-الأميركي، سيُقابل بمزيد من التباعد الإيراني-الخليجي، خصوصًا مع السعودية، وكذلك بمزيد من التراجع في العلاقات السعوديّة-الأميركيّة. وليس سرّاً أنّ المملكة العربيّة السعوديّة كانت بدأت أخيراً سلسلة من الإجراءات التي تؤكّد خروجها من المظلّة الأميركيّة، من خلال توقيع عقود تجاريّة ضخمة مع فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، وتوقيع ستة إتفاقات إستراتيجيّة مع روسيا في مجالات مختلفة، وفي طليعتها مجال الإستخدام السلمي للطاقة النوويّة، في ظلّ عزم المملكة على بناء 16 مفاعلاً نووياً للأغراض السلميّة ولتوليد الطاقة وغيرها، على أن يكون لروسيا الدور الأبرز في تشغيل هذه المفاعلات. والهدف السعودي من هذه الخطوة يقضي بالإحتفاظ بالتوازن الإستراتيجي مع إيران، ومُعاملة الولايات المتحدة الأميركيّة بالمثل.

ثالثاً: ستنتقل العلاقات الأميركية-الإيرانيّة إلى المرحلة التالية الأكثر أهميّة، أي إلى مرحلة ما بعد الإتفاق النووي، بحيث سيتم طرح المشاكل الإقليميّة كافة على الطاولة، والبحث في الدورين الإيراني والأميركي فيها. ومن المُتوقّع أن تكون البداية مع الملفّ العراقي الذي تُعطيه كل من طهران وواشنطن الأولويّة على سواه. كما ترغب الإدارة الأميركيّة بتقديم الملفّ اليمني أيضاً، حرصاً منها على إنقاذ ما تبقّى لها من علاقات مع دول الخليج، وخاصة مع السعوديّة، بينما ترغب القيادة الإيرانيّة بتقديم الملفّ السوري، رغبة منها بتكبيل يد تركيا هناك، وحرصاً على الإحتفاظ بمصالحها الإستراتيجيّة في المنطقة، وبمصالح كل حلفائها المنضوين ضمن "محور المقاومة". لكنّ طرح هذه الملفّات والكثير غيرها لا يعني الوصول إلى حلول أو حتى إلى نتائج إيجابية بشكل فوري ومباشر، وإنّما البدء بوضع سكك الحلول والتسويات الطويلة الأمد في أماكنها.

رابعاً: ستشهد العلاقات الأميركيّة-الإسرائيليّة المزيد من التراجع والتوتّر، باعتبار أنّ إسرائيل تُدرك جيّداً أنّ إيران لن تملك القنبلة النووية قريباً كما تحاول تل أبيب تشييعه من باب المُراوغة والضغط الإعلامي، لكنّها ستُصبح بعد توقيع الإتفاق مع الغرب، طليقة اليدين في المنطقة أكثر من أيّ وقت مضى، مع زيادة قُدرتها على دعم القوى الحليفة في سوريا ولبنان وفي مناطق السيطرة الفلسطينيّة. وهذا الأمر سيدفع إسرائيل إلى إتخاذ المزيد من المواقف المُتشدّدة، لجهة طيّ إحتمال مُعاودة التفاوض مع الجانب الفلسطيني، ولجهة رفع مستوى الضغوط الأمنيّة، لمواجهة تصاعد الخطر الإستراتيجي عليها.

في الختام، من الضروري الإشارة إلى أنّ مسار مرحلة ما بعد توقيع الإتفاق الإيراني-الغربي هو مسار بطيء بدرجة كبيرة، بحيث من الوهم توقّع التوصّل إلى تسويات في الملفّات العالقة بشكل سريع بسحر ساحر، لكنّ الحسنة الوحيدة تتمثّل بأنّ نوعاً من المفاوضات السلميّة غير المُعلنة سيسير جنباً إلى جنب من الآن فصاعداً مع المعارك الميدانية والصراع السياسي في غير مكان في الشرق الأوسط.