ليس المطلوب أكثر 500 مناصر من كلّ قضاء ولجنة. ستكون مهمتهم واضحة أشبه بأمر اليوم: لا اقتحامات، لا عنف ولا استحضار لمشهديات 7 آب. جلّ ما على المحتشدين أن يفعلوه بعد يومين قطع الطريق على كلّ قاعةٍ تصلح في الدستور والقانون أن تحتضن اجتماعًا للحكومة.

الوجهة محدّدة بالنسبة الى الرابية والخيار محسوم: سيناريو تهريب المراسيم لن يتكرّر وبند التعيينات سيكون بندًا أول على جدول أعمال جلسة الخميس... ذاك الخيار العوني لا يعدو كونه مشتهًى لرجل الرابية وقاعدته المتحمّسة لانتفاضة شارعية. فليس كلّ ما يحلم فيه الجنرال في ليالي رابيته الناسمة يتحقّق، والأمر لم يعد يتعلق بالرئيس نبيه برّي وحده بل أخذ الرئيس تمام سلام على نفسه هو الآخر التصدّي لأي محاولةٍ تعطيليّة جديدة من جانب وزراء التيار خوفاً على عمر حكومته.

كرة ثلج

وكأني بسلام يقول لعون إنه لن يسمح له بتغميس جنى عمره ولقمة عيشه في الحكومة أو في الشارع... ولكن قبل أن يقول سلام ذلك يسبقه عون الى أحجياته الراكنة الى عنوان عريضٍ برّاق: حقوق المسيحيين. لا يكفي العنوان وحده لإعادة البرتقاليين الى الشارع لو لم يكن الدعم القواتي حاضرًا إن لم يكن لوجستيًا فمعنويًا، رغم أن همساتٍ كثيرة لا تستبعد انضمام عناصر قواتيّة وحتى كتائبيّة الى الحركة العونيّة المنظّمة في مرحلة لاحقةٍ إذا ما كبرت كرة الثلج وبات العنوان المسيحي العريض يستلزم من هؤلاء الانضمام الى زملائهم في الدين والهواجس.

“قصّتي مع سلام”

لم تشُب علاقة عون بسلام أي شائبة منذ تشكيل الأخير حكومته بصمت. كثيرًا ما رنّ هاتف الرابية ليجد عمادُها تمام بكّ على الخطّ يفاوضه ويهادنه ويؤكد له أنه لا يرضى بأن “يأخذ على خاطره” أو أن يشعر بغبنٍ ما. أفلح رجل المصطيبة في محطاتٍ كثيرة أبقته في منأى عن التصويبات العونية القاسية الى أن انقلبت الآية وانتقلت “الحردة” الى سلام نفسه وهو ما ترجمه في حركة توقيع سريعة ومتسرّعة لم يستسغها العونيون وإن كان موضوعها غير جوهري كالصادرات الزراعية. فهمت الرابية رسالة سلام التي تشبه نظيرةً لها وجّهها برّي صراحة قبل أسبوعين ومفادها: “معكم ومن دونكم الحكومة ماشية”. خرج وزراء التكتّل الثلاثة غاضبين وانتقلوا الى اللقاء الاستثنائي حيث كان برعم قرار الشارع. قرارٌ لم تنضج آليته قبل يوم السبت. ماذا حدث؟

كلمتان...

لم يكن عون متهاونًا ولا في مزاج التقاط بعض الصور للذكرى مع مسؤولي الأقضية وناشطيها. أراد أن يقول كلمتين ويمضي الى سريره حيث الحسابات مختلفة. حسم قرار اللجوء الى الشارع، وضع الموجودين في أجواء التحرّكات وخريطتها ليخرج هؤلاء بخلاصةٍ واضحة: 500 عنصر من كلّ قضاء ولجنة يكفون في مرحلةٍ أولى لقضّ مضجع سلام والمتحالفين معه على ثلاثة سيناريوهات في جلسة الخميس: تسويف بند التعيينات؛ تهريب المراسيم بلا إجماع وتجاهل اعتراض التيار وحلفائه “الحقيقيّين”، و”العبث” مجددًا في صلاحيات الرئيس المحفوظة بـ “تفنكة” جديدة قد يبتكرها برّي على غرار العقد الاستثنائي الذي أسقطه إجماعٌ مسيحي. أما المخطّط على ما علمت “البلد” فيقضي بإقفال مدخل أيّ قاعةٍ يمكن دستوريًا أن تستقبل جلسة للحكومة أي عمليًا السراي الكبير وقصر بعبدا الشاغر.

خليّة نحل

قبل ثلاثة أيام من جلسة الخميس الناريّة (احتسابًا من يوم أمس) تبدو أجواء الرابية ضبابيّة. بعضهم يقول إن الأمر بات محسومًا وإن لا تراجع عن لعبة الشارع وإن الأقضية واللجان بدأت تستعدّ لحشد ناسها وتتحرّك كخلية نحل على خطّ تأمين 500 مناصر من الشباب القادرين على الصمود في حمأة الحرّ والتحرّك بسلاسة بين وسط بيروت وبعبدا وإحداث ضجيج قد تعجز عنه الكوادر المخضرمة. تلك الصورة الواردة بنسبة كبيرة والتي تبقى رهن مجريات جلسة الخميس وبنودها وسلوكيات رئيسها والوزراء المتفقين معه، يقابلها تلميحٌ عوني الى أن قرار الشارع لم يُحسَم بعد وأن اللقاء الاستثنائي واجتماع السبت كان لا بدّ منهما لرؤساء الأقضية ولقطاع الشباب ليكونوا في صورة ما يمكن أن تتطلبه منهم المرحلة المقبلة خصوصًا إذا ما تمّ تجاهل إرادتهم ومن خلالها حقوق المسيحيين. ذاك اللاحسم الذي يرتقي به بعضهم لا يمنعهم من تأكيد ارتفاع أسهمه متى حملت جلسة الخميش مفاجآت غير سارّة لهم.

مغبّة لعبة الشارع

لم يكن على المصطادين في ماء الرابية العكر انتظار تلويحها بالشارع ليصوّبوا على خياراتها وليحذروا من مغبّة لعبة الشارع. وإذا كان وزراء الرئيس السابق ميشال سليمان دعموا عون في جلسة إسقاط العقد الاستثنائي التاريخيّة بحملها وحدةً مسيحيّة نادرة، فإن جامعهم (سليمان) لن يذهب حكمًا أبعد مما أملاه عليه “واجبه المسيحي” بإعلان دعم عون في الشارع أو بأخذ الاستطلاع المسيحي على محمل الجدّ. أما بالنسبة الى القواتيين والكتائبيّين فيبدو انتقاد الخيار العوني بالنسبة اليهم أشبه بورقةٍ خاسرة خصوصًا متى تمّ تحميل التظاهرات الافتراضيّة عنوانًا مسيحيًا لا يمكن لحزبين بحجم القوات والكتائب أن يتنصّلا منه، ومتى فعلا في الميدان سيتلافيان التصويب عليه حكمًا، لا من باب الغزل الدائر بينهم هم الثلاثة أخيرًا والزيارات المتبادلة للتهنئة، بل من باب الحرص على سُمعتهما المسيحيّة أمام شارعيهما الذي إن خُيِّر لما وفّر خيار الشارع بنبضه الشبابي الى حين انتخاب رئيس.

بسمنة... وبزيت

لا تهضم معداتُ منتقدي القرارات العونية في الآونة الأخيرة ما تسمّيه “ملف بسمنة وملف بزيت”. فهدف التيار من النزول الى الشارع ليس في الدرجة الأولى انتخاب رئيس للجمهورية كما يتهيّأ لهؤلاء بقدر ما هو احترام صلاحيات رئيس غائب. يخشى بعض هؤلاء صخب الشارع الذي سيُحدِثه العونيون رغم يُتمِ تحرّكهم، فيما يلجأ آخرون كالرئيس بري الى “القوطبة” على أي تحرّك بالضرب على وتر “نظاميّة” عون وانضباطه كونه ابن مؤسسة ودولة تهذّبان السلوكيات الحادّة التي تغامر بزعزعة أسس مؤسسات وأعراف.

أغضبهم الرئيس

في الرابية وصلت الأمور الى حدّها. النفوس حاقنة وما عاد سوى الشارع “يفشّ خلقها” ويشفي غليلها. الاستياء من تحرّكات بري “النصّ كم” على حدّ تشبيه العونيين انتقل فجأة بعد جلسة الخميس الماضي الى الرئيس سلام. أغضبتهم فعلة سلام “التجاوزيّة” لمسألة الإجماع المُتّفق عليه منذ فترة لتوقيع كلّ المراسيم. قطفها عون بعدما وصلته على طبق من فضّة، نهل منها كلّ أحجياته ليطلق قطار الشارع لا بل ليسوّغه بعدما ظنّ اللبنانيون أن الصدأ اعترى سكّته وما عاد ينفع. ليست الأمور على هذه الشاكلة حتى لو كان الحلفاء صامتين من دون أن يعني ذلك أنهم غير معنيّين. يراقب هؤلاء “جنون” عون من بعيد ويبدون من بعيد أيضًا استعدادهم لدعمه.

ثلاثة طروحات...

هما يومان يفصلان عون عن الشارع. معادلة بسيطة تُظهِر أن ما يحشده التيار يناهز 26 ألف مناصر. يومان يُكملان كلّ عناصر المشهدية التي لن يجني بها عون على الحكومة بقدر ما ستكون هي في حساباته، وتحديدًا بشخص رئيسها “المُنصاع” لصفقاتٍ تمريريّة تهريبيّة، من جنى على نفسه. الى حينها، يهوى البرتقاليون لعبة الشارع. ربما اشتاقوا اليها منذ العام 2005، وليس من مؤشرٍ الى ذلك أقوى من ثلاثة طروحاتٍ عونية في غضون أقلّ من شهر يشكّل الشارع صلبها ومتنها: مبادرة انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب؛ طرح الاستطلاع المسيحي، وأخيرًا التصدّي لاستلشاق الحكومة في الشارع. واضحٌ أن الشعب متعطّش للأرض، لتطبيق شعارٍ تحمله أغنيته الشهيرة. “التيار سينزل عالأرض وستكون السرايا هي حدودو”.