لماذا لا نعبر عرباً فنبرع ونعيد أرضنا ربوعنا فنرعب ونوزّع عبرنا على الأرض بدلاً من " الربيع" المستورد؟

في العام 1982، إبّان الإجتياح الإسرائيلي للبنان، دار حوار في مركز ضبية الذي إختاره العدوالإسرائيلي آنذاك مقرّاً لقيادته شمالي العاصمة بيروت ،بين عسكريين لبناني و"إسرائيلي" يتكلّم العربيّة بطلاقة وباللهجة الفلسطينية، إعترف خلاله بأنّ "إسرائيل" قد أخطأت خطأً شنيعاً عندما اعتمدت إستراتيجية السلام مع بعض أنظمة الدول العربيّة فوقّعت معها إتفاقيات منفردة منيت كلّها بالفشل. وأفصح أنّ دولته مشغولة بوضع إستراتيجية أخرى هي محاولة تحقيق السلام مع الشعوب العربيّة وفقاً لخطّين متلازمين: التطبيع بهدف التخضيع من ناحية والحروب الداخلية الطائفية والمذهبية بهدف التجزئة والتقسيم لتلك الشعوب من ناحية أخرى. هذا الكلام جاء على لسان وزير لبناني، الأسبوع الماضي، في سياق محاضرة عامّة.

قد يكون هذا الكلام صحيحاً لأنّ الأنظمة لم تستطع أن تحمي ما فعلته من تنازلات"لإسرائيل"، إذ بقيت تلك المحاولات في خرق الأنظمة مشلولة وشبه معزولة عن الوجدان الشعبي العربي. من الطبيعي القول اوّلاً، أن مسافاتٍ شاسعة تقوم حكماً بين مفهومي التسويات والسلام. فقد تحمّس السادات للإنخراط في مبادرة سلمية نحو كامب دايفيد فإغتيل وأربك العرب، وقامت مبادرات وإتفاقات جزئية كما حصل في أوسلو وأريحا وغيرهما، لكنها بقيت مؤقّتة ومحكومة بالفشل وتشظيات وجهات النظر. حملت تلك الهوامش صفة التسويات التي أورثت الكثير من التداعيات السلبية والتشقّقات والإتّهامات بين زعماء العرب ومسؤوليهم وشعوبهم، وهي، كما إتّضح بالتجربة، لم تؤشّر بغبار السلام الشامل والناجز أوبالإستقرار النسبي. ومن الطبيعي القول ثانياً أنّ المعضلة كانت وما تزال مرتبطة بطبيعة الكيان الإسرائيلي الذي لا مكان لمصطلح السلام ولا حتّى التشويات في قاموسه التاريخي. يمكن القول أن نتيجة تلك التسويات دفعت الكثير من الأنظمة العربيّة الى حرق أصابعها بين غضب شعوبها ومراوغة "إسرائيل" وعداوتها التاريخية للعرب والمسلمين وبين الضغوطات الهائلة التي أدمنت الدول الكبرى وفي رأسها أميركا في ممارستها على العرب الى درجة تشتّت السياسات الأمنية العربية. ولنعترف عرباً ومسلمين بأنّنا شارفنا حدود الإعياء بحثاً عن كيفية تحقيق الإستقرارلأوطاننا وأجيالنا المقبلة. ويتضاعف هذا الطموح المشروع في الإستقرار متلازماً مع أهوال الحروب والتفجيرات الهائلة والمجانية والمتحركة بين بلد عربي وآخر. فتحت عين الغرب ناسج ثوب خطايا الخلط بين الإرهاب والإسلام ومؤمراته ، وبالتنسيق مع "إسرائيل" التي تدسّ أصابعها المخابراتية تطبيعاً وتحريضاً وحروباً في العبّ الأوسطي، تجوب القطعان التكفيرية وترعى شعوبنا من دون تمييز وتتباهى بصور الذبح والتدمير والعبث والتشويه فيظهر العرب عربين: قسم مرمي في قلب ركام الأوطان وقسم آخر مرمي في قلب الخوف، يتوحدان في المصائب من خرائب العراق وسوريا وليبيا واليمن الى مصر المزعزعة بإغتيال رمزية قضائها والكويت والسعودية وتونس المشغولين بتفجير المساجد والشواطيء، للقول أن أحداً في العالم لن يكون بمنأى مما يحصل. عن أيّ عالمٍ نتكلّم؟

إنّنا، وفي ضوء تعقيدات الوئام بين الأنظمة العربية ، وإستحالته مع"إسرائيل" في صراعها المزمن مع العرب والعالم بشأن فلسطين التي تتوزّع مشاهدها الدموية التاريخية وتتضاعف في أرض العرب ، نبدو وكأنّنا بلغنا حافة تقسيمنا الى عربين: بلاد لتقسيم النفوذ فيها وبلاد لتقسيم الجغرافيا. وبهذا المعنى تتظهّر إستراتيجية تأمين الإستقرار"لإسرائيل" عندما يصبح لكلّ طائفة أو أقليّة أو مذهب فينا طموحات بالأمن الذاتي. نحن مجدداً أمام التقسيمات الفدرالية والكونفدرالية والخرائط المسحوبة من الأدراج والغرق في رسم الدويلات الفوضوية وكأنّ بلاد العرب قطعة من الجبن تحت السكين الإسرائيلية يمسك الغرب بناصيته.

كان يقبل هذا الفكرقبل الحرب الباردة حيث كانت القوتان العظميان تنسلاّن من جروح البشرية لتسيطر كلّ منهما على بقعٍ من العالم ويحكمهما تنافس وتوازن على البقع الأخرى. الآن تتشابه القوى العظمى وتتكاثر وتتنافس ويضعف الإئتلاف في ما بينها ويفقد ضرورته في التعاون لحلّ المسائل المعقّدة. يقود هذا الإختلال في هيكلية النفوذ العالمي وخصوصاً بين أميركا والقوى الإقليمية الكبرى وحتى الدول الصغرى ومعظمها ترى في الولايات المتحدة دخيلة لا تملأ الدور الأساسي في تحديد ما يجري فيها تحت العين العالمية، ولا تريد القوى الثانوية في كلّ منطقة أن تقع تحت سيطرة القوّى الإقليمية كإيران وتركيا، وتحاول أن تحدّ من قدرتهما على رسم الأحداث والمستقبل. غياب واضح للقرار الأميركي وهناك أزمة ثقة تتوسّع بين أميركا والعرب، وهناك فشل واضح لحكومات"الربيع العربي"، وهناك تنازع لمفاهيم القيادة بين الأنظمة والمنظمات الأصولية التي توسّع دائرة تخريبها. ماذا نفعل؟

ننتظر الخارج ونتطلّع الى نموذج السودان والجمر الحي تحت الرماد، أو الى لبنان؟ تجربتنا تقول أننا ألفنا بتشظياتنا المشاريع الكثيرة التي لطالما سبقنا العرب إليها في الحلول الفدرالية ، لكنّنا البلد الوحيد الذي رضخ الى مقولة أنّه أصغر من أن يقسّم وأكبر من أن يبلع. إنّ لبنان يعيش تجليّات النموذج الصارخ لما أسميناه تقسيم النفوذ بين الطوائف والمذاهب. وما تداول الكثير من اللبنانيين المستجد بسمات الإستقرار النسبي وأسبابه والذي يشهدونه مقارنةً مع بعض الدول العربية الأخرى الملتهبة إلاّ نوع من ترسيخ هذا النوع من التقسيم في السلطات والنفوذ. فتنصبّ التحليلات والأفكار بين من يرجع إستقرارنا الى كوننا شغلنا الحبّة الأولى في سبحة الحروب العربية القاسية. أكل نصيبه منها طيلة عقدٍ ونصف وما زالت بقايا ويلاتها ومصائبها ماثلة على أكثر من مستوى، بينما يرى آخرون أنّ وراء إستقرارنا كلمة سر أو رفق مصلحية لا إنسانية إقليمية ودولية، بينما يذهب رأي ثالث أنّ لبنان بلد عالق في مصعد معطّل والحرائق من حوله، وما أن تخمد في سورية حتى تنتقل إليه خصوصاً إن لم يتّفق اللبنانيون خلسةً أو بإيحاء ما في ما بينهم.

ماذا نفعل؟

بعد سقوط البرجين 2001، كان هناك قرار دولي وتمّ تفكيك الشبكات الإرهابية لتعود فتفرّخ من باب الحرب الإستباقية في ال2003 على العراق. ليس سوى الحوار العربي والإتفاق على قيادة جامعة ولو كان مشقّةً. فهو أقصر الطرق لدحر دواخل التخريب وترميم الأوطان المدمّرة والجريحة والخائفة، حتّى ولو كان الإتفاق مخالفاً للقوانين والدساتير فإنّه يبقى إيجابياً في إعادة بناء السلطات المتشظية حينما تنفصل أو تتباعد سواء على الداخل أو على الدول الأخرى العربية كما هو حاصل اليوم. وما ينسحب في هذا المجال على لبنان فرضية مهمة يمكن سحبها على كلّ بلدٍ عربي وعلى البلاد العربية الموحدة في الخوف وتوحدها يقوى أضعافاً في القرار بالتوحد.