وسط جبال ​النفايات​ المتعددة التي يغرق بها اللبنانيون، عاد اليوم ملف النفايات ليفتح على مصراعيه، من دون أن يذهب أحد إلى البحث عن الأسباب الحقيقية التي يؤخذ بموجبها أغلب المواطنين رهائن، لتحقيق مصالح مالية وسياسية محددة، وكأنها عملية إرهابية ضخمة يراد من خلالها إخضاع إرادة الدولة الغائبة عن تحمل مسؤولياتها منذ سنوات طويلة.

في حقيقة الأمر، لم تكن هذه الأزمة مفاجئة، الجميع كان يتوقع الوصول إلى هذه المرحلة، لكن فعلياً كان المطلوب أن تنفجر بوجه اللبنانيين، من أجل العودة إلى نقطة البداية، إلا وهي التمديد لشركتي ​سوكلين​ وسوكومي، وهنا تكمن القطبة المخفيّة التي منعت المتعهدين من التقدم إلى مناقصة بيروت وجبل لبنان، تحت عنوان "الشروط التعجيزية"، مع العلم أن الأخيرة متوفرة في مناقصات أغلب المناطق.

قبل الإنطلاق إلى خفايا هذا الملف، هناك حقائق يجب أن يعرفها المواطنون، وهي أن بعض المصانع المحلية، على سبيل المثال، تشتري النفايات من الخارج، كما أن مطمر الناعمة ليس وحيداً في لبنان، بل له شقيق شرعي موجود في منطقة بصاليم، القليلون هم من يعرفون بوجوده لأنه لا يثير المشاكل حوله، لتكتمل الفضيحة مع طمر ثروات من الممكن الإستفادة منها على أكثر من صعيد، صناعياً وزراعياً بالحد الأدنى.

الاستفادة من النفايات ممكنة

لدى البحث في هذا الملف الشائك، يتبين بحسب الدراسات التي يتحدث عنها مختصون، أن ما يقارب 10% فقط من النفايات في لبنان لا يمكن الإستفادة منها، في حين أنه يمكن ذلك مع ما يقارب 90%، في حال توفرت بعض الشروط غير التعجيزية، التي أساسها تعميم مبدأ التدوير والتسبيخ إلى أقصى حد، بهدف تقليص كمية النفايات التي ستطمر.

في هذا السياق، يكشف مصدر مطلع، عبر "النشرة"، أن 60% من النفايات اللبنانية من المواد العضوية التي من الممكن الإستفادة منها في إعادة تكوين التربة، في حين أن ما يقارب 30% من المواد التي من الممكن إستخدامها في إعادة التصنيع، (زجاج، ورق، حديد، أقمشة، دواليب، كرتون...)، ويؤكد أن الصناعيين يتمنون بيعهم هذه المواد التي سيستفيدون منها كثيراً، كونهم في الأصل يشترونها من الخارج.

ويشدد هذا المصدر على صعوبة معالجة ملف النفايات من دون وجود مطامر صحية، لكنه يلفت إلى أن المسألة المهمة تكمن في كيفية تقليص الكمية التي من المفترض طمرها، ويعطي مثالاً على ذلك مطمر بصاليم الذي لا يسمع به المواطنون بسبب عدم إثارة ضجة حوله، نظراً إلى غياب المشاكل.

حول هذا الموضوع، يفضل المصدر نفسه العودة إلى الخطة الوطنية الشاملة لمعالجة النفايات الصلبة في المناطق اللبنانية كافة، التي تقدم بها وزير البيئة السابق يعقوب الصراف إلى مجلس الوزراء في العام 2006، حيث كانت الأرقام الواردة فيها تشير إلى أن حاصل الوضع العام، في سنة 2005، كان: حوالي 80% يخضع لعملية الطمر الصحي، تمت معالجة نحو 10%، ويتم تدوير نحو 10%، أما حاصل الخطة المقترحة حينها فكان: 40% طمر صحي، 40% معالجة، و20% تدوير.

المباغتة السلاح الأقوى

الخفايا الأساسية في هذا الملف الحيوي، تتكشف تباعاً لدى البحث في أسباب فشل أو إفشال خطة الصرّاف، نظراً إلى أن البلاد حينها كانت غارقة في أزمة سياسية كبيرة ناتجة عن الخلاف الذي أدى إلى إستقالة الوزراء الشيعة من حكومة فؤاد السنيورة، بالإضافة إلى إستقالة وزير البيئة نفسه الذي كان يمثل الرئيس السابق اميل لحود.

وتشير مصادر سياسية مطلعة على هذا الملف، عبر "النشرة"، إلى أن فهم حقيقة الأمر يتطلب سرد بعض الوقائع التي قد تكون غائبة عن ذهن عامة الناس، وهي تبدأ من أن الحكومة وقعت في العام 1997 عقوداً مع شركتي سوكلين وسوكومي لفترة عشر سنوات بأسعار تناهز 120 دولار أميركي مقابل الطن الواحد، وهي تعتبر مرتفعة جداً بالمقارنة مع الواقع في مختلف دول العالم.

وتلفت هذه المصادر إلى أنه في العام 2006، تقدم الصراف بالخطة الوطنية التي تم إقرارها في مجلس الوزراء وتم إسناد تنفيذها إلى مجلس الإنماء والإعمار الذي تلكأ في هذه المهمة، من خلال تلزيم الدراسة الفنية إلى هيئات إستشارية تحت عنوان "ملاءمة التقنيات الأفضل لمعالجة النفايات المنزلية في لبنان"، بمبالغ تناهز مليون دولار أميركي، لإنتاج دراسات مثقلة يعجز على السلطة السياسية دراستها وإستخلاص العبر منها، وصولاً إلى إحالتها إلى لجنة فنيّة لإضاعة المزيد من الوقت، ومن المعروف لبنانياً أن اللجان هي مقبرة المشاريع.

الهدف من هذه الدوامة التي ادخلت فيها الخطة قبل 9 سنوات، هو نفسه ما تكرر لاحقاً، أي إستخدام عنصر المباغتة أمام مجلس الوزراء للوصول إلى فرض خيار التمديد لشركتي سوكلين وسوكومي، وهو ما حصل فعلاً في العام 2007، في حين كان من المفترض أن تنتهي البلاد من هذه المعضلة عندها.

بالنسبة إلى هذه المصادر، هناك مفارقة غريبة ينبغي التوقف عندها، وهي أنه في العام 2007 تم تجديد العقود على أساس الأسعار التي كانت معتمدة في تلك الموقعة في العام 1997، ما يعني واحداً من إحتمالين، لا ثالث لهما، إما أن الأسعار التي كانت تدفع في العام 1997 مرتفعة جداً أو أن سوكلين وسوكومي قررتا العمل بخسارة، وهذا الأمر غير واقعي على إعتبار أن جميع الشركات التجارية تبغى الربح، وهي حكماً ليست جمعيات خيرية.

بعد ذلك الوقت، تم تجديد العقود في العام العام 2010 لفترة 5 سنوات، حيث كان الوزير السابق محمد رحال يتولى حقيبة البيئة، في حين كان من المفترض أن تعمل لجنة وزارية مكلفة بالتفاوض مع الشركتين على تخفيض الأسعار، بما يتلاءم مع الأسعار المعتمدة على الصعيد العالمي، كما أقر في العام نفسه مجلس الوزراء خطة جديدة لتعديل تلك الموضوعة في العام 2006 لجهة إستعمال المحارق، واسند التنفيذ إلى وزارة البيئة ومجلس الإنماء والإعمار، لكن مرة جديدة تلكأ المجلس عن التنفيذ بغية الإستفادة من عنصر المباغتة، ليتكرر هذه الأمر وصولاً إلى اليوم حيث بات المطلوب الوصول إلى حلول تنقذ البلاد من الغرق في النفايات.

إنطلاقاً من هذه الوقائع، تعتبر المصادر السياسية المطلعة أن في لبنان ثالوث مقدس يمنع الوصول إلى حلول عملية لهذه الأزمة الوطنية، يبدأ من شركتي سوكلين وسوكومي، ولا ينتهي في مجلس الإنماء والإعمار، بل في مجلس الوزراء حيث الكارثة الأكبر.

مطمر الناعمة والأهداف السياسية

المشكلة الأساس اليوم، تكمن في إغلاق مطمر الناعمة، هذا ما هو معروف بالنظر إلى تغييب الخطة الشاملة الكفيلة في معالجة الأزمة برمتها، لكن المصدر المطلع يشدد على أن القضية مفتعلة إلى حد بعيد، ويوضح أن القطبة المخفية تكمن في إستغلاله بغية الضغط السياسي الهادف إلى الحصول على مطالب معيّنة، بحيث أصبح السلاح الأقوى، الذي من خلاله يستطيع رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط الحصول على مكاسب من جانب رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، نظراً إلى أن تيار "المستقبل" هو المعني الأول بشؤون العاصمة بيروت من الناحية التمثيلية.

وفي حين يشير المصدر إلى أن شركتي سوكلين وسوكومي تعتبران بمثابة "البقرة الحلوب"، التي تستفيد منها أغلب القوى السياسية في البلاد، تلفت إلى كارثة أخرى تكمن في كيفية إحتساب النفقات المستحقة لهما، التي تعتمد عند إصدارها الفواتير الموجبة على الدولة اللبنانية على أساس الوزن، وفي أغلب الأحيان تكون مياه الأمطار المتراكمة في مستوعبات النفايات جزءاً من الوزن، ما يعني زيادته بحوالي 30% عن الحقيقي، أما الجهة التي من المفترض بها أن تتولى الرقابة فهي شركة "لاسيكو" الخاصة، المملوكة من النائب السابق سليم دياب، المحسوب أيضاً على تيار "المستقبل".

لدى السؤال عن الأسباب التي تحول دون قيام سوكلين وسوكومي ببيع النفايات التي من الممكن الإستفادة منها، يوضح المصدر نفسه أن الأسعار التي تدفعها الدولة لقاء طمر كل طن أكثر من المردود الذي من الممكن الحصول عليه من جراء هذه العملية، والسبب يعود أصلاً إلى أن التكلفة مرتفعة جداً.

وفي الوقت الذي يجزم فيه المصدر بشرعية المطالب التي يرفعها الأهالي والجمعيات البيئية، يوضح أن مشكلة هؤلاء هي في الطمر غير السليم، حيث المطلوب أن يكون غير مضر من النواحي البيئية والإقتصادية والإجتماعية، ويلفت إلى أنه عند ذلك ستكون النسبة المتضررة قليلة جداً، تحديداً في عين درافيل، ومن الممكن إستملاك أراضيها ومنازلها في سبيل تأمين المصلحة العامة، ويسأل: "هل الجمعيات البيئية راضية عن المشهد الذي يجتاح الشوارع في بيروت وجبل لبنان في هذه الأيام؟"، فيجيب: "حُكماً لا، لكنها تتطلّب الحلول الواقعية التي تمنع حصول أضرار".

ويشير هذا المصدر إلى أنه في الأزمة التي حصلت قبل نحو عام، والتي تم بموجبها أخذ قرار باقفال مطمر الناعمة نهائياً في السابع عشر من تموز الماضي، تم توزيع تعويضات كبيرة على البلديات، التي قيل أنها متضررة، ويكشف أن بعضها حصل على تعويضات لا يستحقها، بسبب الرغبة في تأمين التوازن السياسي والطائفي، ويضيف: "بعض رؤساء البلديات عند إبلاغهم بأن لهم تعويضات نتيجة أضرار المطمر إستغربوا الأمر".

ما هي الحلول الواقعية؟

في ظل هذه المعطيات، حيث الأزمة القائمة تشهد عليها الشوارع في بيروت وجبل لبنان بشكل رئيسي، تقارن أوساط سياسية، عبر "النشرة"، بالواقع الذي كان قائماً في قطاع الخليوي، قبل فسخ العقود مع شركتي "Cellis" و"Liban cell"، وتستبعد أن يتقدم أي متعهد إلى المناقصة الخاصة في بيروت وجبل لبنان، نظراً لإعتبارات عديدة أبرزها الضغط السياسي.

وترى هذه الأوساط أن الحل الأنسب قد يكون من خلال تكرار ما قام به وزير الإتصالات السابق جان لوي قرداحي، أي فسخ العقود مع سوكلين وسوكومي، على أن تتولى الدولة اللبنانية إدارة هذا القطاع لفترة قصيرة، ليصار بعدها إلى إجراء مناقصات عامة من قبل إدارة المناقصات لدى التفتيش المركزي، وفقاً لدفتر شروط مُحكم ومدروس بشكل جيد، وتضيف: "كما أدى هذا الإجراء إلى إرتفاع واردات الدولة من قطاع الإتصالات بشكل كبير، سيحصل الأمر نفسه في قطاع النفايات"، لكنها تشير إلى أن العقدة الأساس تكمن في غياب القرار السياسي الذي وجب عليه أن يأخذ المصلحة العامة بعين الإعتبار دون أي مصالح أخرى.

في المحصلة، هذه هي أبرز معالم أزمة النفايات، التي تمثل جزءاً بسيطاً من أزمة الدولة اللبنانية، حيث المحاصصة والفساد يسيطران على أغلب القطاعات، والمواطن ليس أكثر من ضحية تؤخذ رهينة في مثل هذه المعارك، التي لا تنتهي إلا على حساب مصلحته.