كان مُعبِّراً بما فيه الكفاية أن يتزامن بَدء العملية العسكرية الجوّية التركية في شمال سوريا ضد «داعش» والأكراد مقدّمةً لبسطِ النفوذ التركي المباشر على هذه المنطقة، مع معاودةِ تونس فتحَ أبواب سفارتها في دمشق بعدما كانت أوّل دولةٍ عربية تغلِقها، بما يؤشّر إلى عودة التواصل العربي مع النظام السوري والإقرار بشرعيته.

في كلا الحالتين كانت واشنطن تقف وراء الستارة مبدِيةً موافقتها على ما هو حاصل. النظام السوري باقٍ برئاسة بشّار الأسد، على الأقلّ خلال المرحلة المقبلة، وسيكون جزءاً مِن الائتلاف الجاري تشكيله لمحاربة الإرهاب في سوريا.

من هذه الزاوية أيضاً يمكن قراءة الخطوة العسكرية لتركيا. صحيح أنّ أنقرة ما برحَت تطالب منذ اندلاع الحرب في سوريا بالسماح لها بإقامة منطقة عازلة في الشمال تخضع لإدارتها، إلّا أنّ التطوّرات الهائلة التي حصَلت في المنطقة، وفي طليعتها الاتّفاق الأميركي ـ الإيراني، قلبَ المعارضة الأميركية إلى موافقة ولكن وفقَ خطّة متدرّجة تبدأ بالغارات الجوّية.

وتقاطعَت مصالح واشنطن مع مصالح أردوغان الخارج لتَوِّه جريحاً من انتخابات صعبة سمحَت للأكراد بالدخول إلى البرلمان من الباب العريض، وتقاطُع المصالح هذا تمحوَر حول هدفين:

الأوّل، البَدء بمحاصرة «داعش» وتطويقها وتقليم أظافرها من خلال دخول تركيا إلى الحلف الذي سيتولّى محاربة الإرهاب في سوريا، ما يعني حفظَ مكان لأنقرة في سوريا الغد.

والثاني، ضرب القوّة الكردية الصاعدة في شمال سوريا، خصوصاً أنّ نشوةَ معركة كوباني ساهمَت في رفع معنويات الأكراد في الداخل التركي وتُرجِمت في صناديق الاقتراع، إضافةً إلى تصاعد أحلام إقامة منطقة كردية مستقلّة قابلة للاتحاد مع منطقة كردستان العراق وإنشاء كيان واحد.

وفي سماح واشنطن بضربِ الأكراد في سوريا إشارةٌ قوية إلى عدم موافقتها على تغيير حدود سايكس - بيكو القائمة، بل إنّ هدفها تغيير الأنظمة الداخلية للدوَل وفقَ صيغةٍ تُكرّسُ التعددية في الحكم ووفقَ إقرار مبدأ «الأخوة ـ الأعداء» داخل كلّ دولة.

وتدرك واشنطن خصوصاً، أنّ تركيا وحدَها قادرة على أن تشَكّل عاملَ توازن مع إيران، ما يَدفع إلى ضمان الليونة المطلوبة من الجمهورية الإسلامية في مشاريع وصفقات ترتيب التسويات في المنطقة، خصوصاً أنّه معروف عن الإيراني عنادُه خلال عملية التفاوض ونَفَسُه الطويل وبراعته في «عَلك» الوقت.

في اختصار باشرَت واشنطن تحضيرَ المسرح للمفاوضات والتسويات. من هنا نفحةُ التفاؤل التي سادت الأوساط ال​لبنان​ية عقبَ توقيع الاتفاق النهائي بين واشنطن وطهران. وفي المقابل ظهرَت توقّعات متشائمة على أساس أنّ النزاع سيستمرّ، لا بل سيتصاعد. وقد تكون وجهتا النظر صحيحتين ولكن جزئيّاً.

فقريباً سيَزور وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس طهران حيث سيَطرح معها خصوصاً الملفّ اللبناني وضرورة إنهاء الشغور الرئاسي، طالباً مساعدةَ المسؤولين الإيرانيين في هذا الشأن. ويُجري فابيوس قبَيلَ رحلته مشاورات واسعة، خصوصاً مع المسؤولين الأميركيين، حيث سيتحدّث في طهران باسمِ بلادِه إضافةً إلى الدوَل الخمس التي شاركت في المفاوضات النوَوية.

بالتأكيد لا أحد يتوقّع نتائجَ سحرية وفورية، لكنّ الزيارة ستعطي إشارةَ انطلاق رسمية للملفّ اللبناني الذي تربطه طهران بالتسوية السوريّة.

لكنّ هذا المناخ التفاؤلي لا يَعني أنّ المسالك ستكون هادئة، لا بل على العكس، فعدا المعارك التي تنتظر جرودَ عرسال والقلمون قبل نهاية فصل الصيف والحماوة التي سترافق تطويقَ بلدة عرسال، بدا أنّ التخوّفَ الأمنيّ عاد بقوّة إلى الواجهة. فخلال اليومين الماضيين وردَت معلومات عن وجود تحضيرات جدّية لتنفيذ عمليات إرهابية في الداخل اللبناني.

وهذا الهاجس الذي لم يغِب يوماً عن بال المسؤولين الأمنيين اللبنانيين يَستند في هذه المرحلة إلى معلومات موثوقة مع الخشية من وجود مخطّط اغتيالات يسبق عادةً مشاريعَ التسويات من خلال شطبِ أسماء لتعديل موازين القوى، تماماً كما حصلَ مع اغتيال الرئيس رينيه معوّض عام 1995.

وهذه المخاطر العسكرية والأمنية ستترافَق مع أزمات سياسية تصِل إلى حدود تهديد استمرار عمل مؤسّسات الدولة.

فالأزمة الحكومية التي دخلَ فيها الجميع، بمن فيهم تيار «المستقبل» بملءِ إرادته، لا توجد إمكانية للعودة عنها. فالشَلل الحكومي حصلَ وتوَقُّف الحكومة عن الاجتماع سيَعود قريباً جداً.

مِن هنا جاءَ مَن ينصح الرئيس تمّام سلام بخَيار الاستقالة، على أساس أنّ بقاءَ الحكومة سيُبقيه مكبلَ اليدين نزولاً عند مبدأ تواقيع الـ 24 وزيراً. لكن مع حصول الاستقالة يصبح سلام متحرّراً مِن ذلك وقادراً على تسيير شؤون الدولة من خلال التواصل المباشَر مع كلّ وزير، أضِف إلى ذلك قطعَ الطريق نهائياً على العماد ميشال عون في موضوع التعيينات الأمنية بدلَ الوقوف أمامَ هجومه للأشهر الثلاثة المقبلة.

لكنّ آخرين يرَون في استقالة الحكومة عاملَ ضغطٍ داخليّ إلى جانب الواقع الأمني الصعب لإنهاك كلّ الأطراف ودفعِهم تحت وطأة التهديدات الكبرى للذهاب إلى تسويةٍ عبرَ عقدِ مؤتمرِ مصالحة سيكون على الأرجح في سَلطنة عُمان.