يمكننا، في هذا المجال، الإشارة الى كلمة جابت الكرة الأرضية وما زالت تنقل عن أندريه مارلو(1901-1976) الوزير الأسبق للثقافة في فرنسا الذي عنون للقرن الواحد والعشرين الحالي قبل نصف قرنٍ من الوصول إليه(وتحديداً في العام 1955) بأنّه "سيكون قرن الأديان والصراعات الدينية...وأقصد بالأديان (كما أضاف) بصفتها أقنعة سياسية لحروب مصالح الدول المتشبثة بمصالحها في المناطق المستحوذة عليها. وسيستخدم الغرب الاستعماري هذه الترسانة الأيديولوجية كأمضى سلاح بين يديه لاحقاً، خصوصاً في الدول الإسلامية، الفقيرة منها والغنية، وكل بلد بحسب ظروفه أو تناقضاته السوسيولوجية وتكويناته الدينية والإثنية".

كان لا بدّ من التدقيق العلمي في هذه الكلمة التي لم يثبتها هذا المفكّر الملحد مارلو في مقابلة معه في مجلّة "لوبوان" الفرنسية حيث أنكر ما نقل عنه مصوّباً لا مصحّحاً: "لقد قيل عن لساني بأنّ القرن الواحد والعشرين هو قرن الأديان. لم أقل هذا قطعاً لأنني لا أعرف ذلك، لكنّني لا أستبعد إمكانية حدوث يقظة روحيّة لا على مستوى البلاد الإسلامية وحسب، بل على مستوى الكرة الأرضية". وسواء أكان مارلو بجملته قد عنون القرن الواحد والعشرين بالصراع الديني ومخاطره أم لا، إلاّ أنّ جملته تلك ظهرت ماثلة في ديار العرب والمسلمين ودول أخرى من العالم كما في أذهان النخب وخصوصاً العربيّة منها، ووجدت أصداءها العسكرية والعمليّة والدينية والثقافية والسياسية والإجتماعية والعلمية وحتّى التجارية في نصوصهم لتتّخذ دمغتها القصوى المستعادة وأهميّتها بعد صدور كتاب"صدام الحضارات" لصموئيل هنتغتون الذي رأى فيه أنّ صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون قومية أو إيديولوجية بقدر ما ستكون دينية وثقافية بين الحضارات الكبرى في العالم التي عدّدها غربيّة كاثوليكية بروتستانية وأميركية لاتينية ويابانية وصينية وهندية وإسلامية وأرتوذكسية وأفريقية وبوذية.

وكان من الطبيعي أن يتّجه الفكر الإسلامي وفقاً لمحاور أومواقف ثلاثية التوجه: أوّلاً، إعتبار الصراع الديني قائم أصلاً وهو في طور التحقّق سلباً أو إيجاباً وربط معظم الأحداث الكبرى التي حصلت في الشرق الأوسط به أي بالغرب مثل إجتياح أفغانستان من الروس(27/12/1979) الذي أيقظ المسلمين، سقوط الشاه وعودة الخميني بالثورة الإسلامية الى طهران(1/2/1979) الذي أيقظ الصراع بين السنة والشيعة وكذلك نشوب الحرب الإيرانية العراقية(22/9/1980) التي دامت عشر سنوات وكشفت عن إزدواجيات في إذكاء الصراع عبر تمرير "إسرائيل" أسلحة خلسةً الى إيران في ما عرف بفضيحة "إيران غيت"، أوغزو صدّام حسين للكويت (8/2/1990) ثمّ عاصفة الصحراء(16/1/1991) ، وصولاً الى ربطها كلّها بالحدث الأضخم الذي هزّ العالم أعني الى سقوط البرجين(11/9/2002) وما تلاه من أحداث جاءت بموجب القرار الدولي 1337 القاضي بمكافحة الإرهاب عنوان القرن. وللأسف ما أن تقول الإرهاب اليوم حتّى يدرك السامع بأنّ المقصود هو المسلمين بل الإسلام.

وثانياً، إعتبار هذا الصراع مبعث توجّس ورعب بعدما نظر الغرب الى المسلمين بعين حمراء عقب سقوط البرجين، وبسبب ما سيخلّفه هذا المناخ من كوارث ودماء في بلاد الشرق الأوسط بشكلٍ ضاعف القول المقبول أحياناً بالمؤامرة. والغريب في هذا التوجّه الثاني أن النظرة القومية الى هذه الصراعات الدينية والمذهبية لم تأخذ في إعتبارها مسؤولية القسط الأكبر عمّا يمكن أن تولّده تلك الأحداث وما سيليها من تداعيات وكوارث.

وقد يكون الإعتبار الثالث الأكثر دقّةً والأدنى وعياً في إعتبار هذه الصراعات ذوات الصبغة الدينية والمذهبية أملاً كبيراً وسجّادةً حمراء ترفع الأغطية الكثيرة عن بعض الأنظمة وتعيد تشكيل المنطقة وفقاً لنظام عالمي جديد في عصر الإنفتاح والتواصل وخرق الحجب السميكة وذلك كلّه عبر الإنقلابات والحراك الحزبي والشعبي.

لا يمكننا الجزم بمدى إدراك العرب والمسلمين لمعاني إيقاظ النعرات الدينية والمذهبية وأبعادها الذي حلّ عاملاً هائلاً مساعداً في التغيير. يبدون وكأنّهم أغفلوا عاملاً إستراتيجياً وأساسياً كان يقوم في إستراتيجيات الغرب وفي رأسه الولايات المتحدة الأميركية يهدف الى خلخلة الأنظمة الشمولية ومحاولة نسفها، ليس في رقعة العرب والمسلمين بل في العالم. وهنا يجب الإعتراف بأنّ الأزمات التي حلّت بالعديد من الأنظمة لم تحصل منذ سقوط جدار برلين سقوط جدار برلين (9/10/1989) كما يشاع، بل قبل أكثر من ربع قرنٍ الى الوراء مع إنهيار العديد من الحكومات والأنظمة المستبدّة في جنوبي أوروبا وأميركا اللاتينية وشرقي آسيا وأفريقيا.

نأخذ أوروبا أوّلاً، فنتذكّر في ال1974، سقوط جكومة "كايتانو" بإنقلاب عسكري في البرتغال الذي دخل الى المناخ الديمقراطي مع إنتخاب عالم الإجتماع "ماريو سواريز" رئيساً للوزراء في ال1976، وسقط حكم الجنرالات الذين قبضوا على اليونان بين ال1967 وال1974 تاريخ الإنتخاب الشعبي لحكومة "كارامنليس"،وفي العام 1975 توفي الجنرال "فرانسيسكو فرانكو" في إسبانيا فاتحاً الطريق نحو الديمقراطية في ال1977، وفي العام 1983 سقط الإرهاب العسكري الذي تحكّم بتركيا خلال ثلاث سنوات لتأخذ اللاد طريقها نحو الإنتخابات الحرّة وتعدديّة الأحزاب. وبالإنتقال الى أميركا اللاتينية شهدنا في عقدٍ ونصف الكثير من التحولات من الأنظمة الإستبدادية الى التجربة الديمقراطية حيث عادت في 1980 الحكومة الديمقراطية في البيرو بعد دزّينةٍ من الحكم العسكري، وساهمت حرب الفوكلاند في ال1982 من إسقاط حكم الجيش في الأرجنتين وقيام حكومة الرئيس "الفونسين" الذي إنتخب من الشعب، ومثلها سقطت الحكومات العسكرية في الأورجواي في ال1983 والبرازيل في ال1984، وباراجواي وتشيلي ونيكاراغوا وبيرو وكولومبيا. ومع بداية التسعينيات لم يبق سوى كوبا وجيانا اللتين لا تسيران وفق نظام الإنتخابات الحرّة. ونجد التحولات عينها في شرقي آسيا حيث سقطت ديكتاتورية"ماركوس" في الفيليبين في ال1986 لمصلحة "كورازون آكينو" المستمدّة من الشعب، وتخلّى الجنرال"شون" عن السلطة في كوريا الجنوبية قبل إنتخاب" رو تاي وو" رئيساً، وبعد رحيل" شيانغ شنغ كو"، في العام 1988 في تايوان، راجت الأفكار الديمقراطية السريّة التي أوصلت الى البرلمان الأهلي، وكانت من تداعيات ذلك،إسقاط الحكومة الإستبدادية في بورما عبر الحركات الديمقراطيّة. أمّا في أفريقيا فقد أعلنت حكومة جنوب أفريقيا في بداية العام 1990 إطلاق سراح "نيلسون مانديلاّ" والإعتراف بالكونغرس الأفريقي الأهلي.

قطعاً، لسنا في عصر الدين بمعانيه وأبعاده المتعدّدة السلبية الوافدة إلينا، بل نحن في عصرٍ يسخّر فيه الدين عبر المتدينين المستعارين والمستوردين والذين لا أوطان لهم، بهدف زجّه في نهم الأمم الكبرى التي لا تشبع من الخيرات المقيمة في رقعة الأرض وفي رأسها رقعة العرب والمسلمين.