استوقفني بالامس مشهد غريب فعلاً. انتشرت عبر وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، مشاهد لمجموعة من المواطنين يطبّلون ويزمّرون ويحتفلون برفع شركة "​سوكلين​" ​النفايات​ من الشوارع للمرة الاولى منذ اكثر من اسبوع، فيما كان عناصر الشركة الذين يتولون مهمة تنظيف الشوارع يقفون مدهوشين كونهم لم يعتادوا على مثل هذا المشهد الا في الاعراس، فالتفتوا يميناً وشمالاً ولم يجدوا اي بوادر عرس او عروس يتم الاحتفاء بها، ما زاد من دهشتهم واستغرابهم، هم الذين كانوا يلقون نظرات متعالية من قبل الجميع، وحتى اهانات في بعض الاحيان لان مهنتهم هي رفع النفايات ليس الا.

في مقابل هذا المشهد، وقبل ساعات قليلة، لم ينزل اي من المواطنين الى الشارع، لا للتعبير عن الفرح او عن الاعتراض حين "تم تسريب" اخبار مفادها ان رئيس الحكومة يعتزم الاستقالة، لـ"تسرب" بعدها اخبار اخرى مفادها انه لن يستقيل وان الامور قد تصل الى الاعتكاف ليس الا.

مشهدان معبّران: الاول عن مدى التوق الشعبي لمن يهتم بأمورهم الحياتية اليومية، علماً انهم يدفعون اثماناً غالية جداً من اجل هذا الاهتمام الناقص، والثاني عن مدى الاستياء الكبير من الاداء السياسي بشكل عام والحكومي بشكل خاص.

واللافت في المقارنة بين الحالتين، ان سوكلين اتخذت قراراً واكملت به، فيما رئيس الحكومة لم يستطع حتى ان يتخذ القرار، فـ"تسرّب" انه ينوي الاستقالة فيما يعرف في قرارة ذاته انه غير قادر على اتخاذ هذه الخطوة حتى لو اراد ذلك. ألم يقل بنفسه انه تلقى اكثر من اتصال من الرئيس الاميركي ومن شخصيات عالمية تؤكد اهمية الحكومة وبقاءها؟ وبالتالي، كيف يمكنه اتخاذ قرار الاستقالة بعد هذا الموقف الحازم والحاسم؟

ليس سراً ان الجهات الاقليمية والدولية ترغب في بقاء هذه الحكومة، خصوصاً في ظل هذه المرحلة الانتقالية، وهو امر كشفته بشكل واضح وعلني كل المكونات السياسية اللبنانية المشاركة في الحكومة وغير المشاركة، فحتى رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون قال ان اسقاط الحكومة ليس من اولويات اهدافه حالياً، كما ان الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله تحدث في السياق نفسه لجهة الابقاء على الحكومة، ناهيك عن المكونات الاخرى المؤيدة اصلاً لهذه الحكومة.

وسط هذه المعطيات، يتساءل المواطن اللبناني عمن يدير لبنان فعلياً: الحكومة التي لم تجتمع منذ ما قبل عيد الفطر وتعتريها مشاكل وخلافات متواصلة وتكاد لا تنجز اي قرار او موضوع، دون ان يهتم احد للامر، ام سوكلين التي لم تهدأ الاعتراضات والتحركات في الشوارع منذ اكثر من يومين منذ ان تكدست النفايات في الشوارع للاعتراض على عدم رفعها النفايات، فيما الشركة تتمتع برفع المسؤولية عنها وتضعها في خانة الحكومة والسياسيين.

هل باتت سوكلين اهم من الحكومة؟ من الناحية العملية، نعم. اما من الناحية العامة، فمن المفترض ان تكون الحكومة اقوى وتفرض قراراتها على سوكلين وعلى غيرها، ولكن في الحقيقة، الحكومة عاجزة وفي فترة ركود سياسي طويل، وقد يطول اكثر. ولكن مع ذلك، لا يمكن الاتيان بحكومة جديدة بسبب "الفيتو" الخارجي على اسقاطها اولاً، وبسبب عجز اللبنانيين عن التوافق على حكومة جديدة ثانياً اقله في الوقت الراهن.

وبالتالي، يمكن القول ان وضع "سوكلين" مشابه لوضع الحكومة، اذ لا يمكن للبنان الاستغناء عن هذه الشركة بسبب النفوذ والعلاقات التي نسجتها مع سياسيين فاعلين على مر السنوات، وتشعبها في كل منطقة، وهي بالتالي باقية بفعل قوة الامر الواقع. وهذا الوضع هو نفسه وضع هذه الحكومة التي تبقى حية بفعل قوة الامر الواقع ايضاً خارجياً وداخلياً، ولا قدرة لاحد على الاطاحة بها، حتى ولو اراد رئيس الحكومة ذلك...