كيف لنا في لبنان أن ندعو مصطافين من أجانب ومغتربين لبنانيي الأصل، فيما الشوارع والأزقة في المدن والقرى قد غدت مسرحًا لنفايات متراكمة تهيمن على لغتنا وخطابنا وسياحتنا، بل هي لغة معظم سياسيّينا في زمن القحط والجفاف وانعدام المعالجات المنهجيّة المطلوبة من باب الواجب الوطنيّ والحرص السليم على بقاء لبنان؟

وإذ يزيّن لمعظم اللبنانيين بأنّ الطبقة السياسيّة باصطفافها الحاد خلف وحش الفساد تحدثها، فإنّ قلّة عزيزة من السياسيين قاومت الفساد ولفظته من قاموسها، وخرجت مرفوعة الرأس من السلطة إلى التاريخ نقيّة بهيّة ولامعة. من هؤلاء الكبار رئيس الحكومة الأسبق ​سليم الحص​ّ الذي كان رئيسًا للحكومة وقد قاوم الفساد غير مرّة. ويطيب له أن يروي في مجالسه كيف أنّه خلال سنة 1998 اعترض على عقد يلزّم شركة "​سوكلين​" بسبب أن كلفته سبعين مليون دولارًا أميركيًّا. فما كان منه سوى أن طلب إجراء مناقصة، فتقدمت ثلاث شركات بعروض، أوّل شركة كنديّة بقيمة 37 مليون دولارًا أميركيًّا، وأخرى أستراليّة بقيمة 39 مليون دولارًا أميركيًّا والثالثة برازيليّة بقيمة 48 مليون دولارًا أميركيًّا. تمّ تأجيل المناقصات حتى سقط الحصّ خلال انتخابات 2000 وجاءت الحكومة الأولى برئاسة ​رفيق الحريري​ فتم تجديد العقد مع سوكلين بمئة وثلاثين مليون دولار أميركيّ، وتروي المصادر بأنّ جزءًا من الأزمة الحاليّة يعود لسبب أن الشركة المذكورة قد تقدمّت بعرض كلفته خمسمئة مليون دولار أميركيّ، وثمّة إصرار عند فريق سياسيّ بتلزيم شركة "سوكلين" على الرغم من هذه الكلفة غير المعقولة، وهذا هو جوهر الأزمة الحالية بالإضافة إلى إقفال مطمر الناعمة بسياق مذهبيّ-مدنيّ.

وعلى الرغم من خطورة الأمر الفائقة، بسبب انعكاساته البيئيّة والصحيّة الشديدة السوء على حالة اللبنانيين وواقعهم، فإنّ تلك المسألة تفصيل من واقع عام محشوّ بتفاصيل عديدة تشي بمشروع خطير يسلب لبنان من حالة الاستقرار الهشّ والمعطوب، إلى الانفجار العميم الذي يطيح بالكيان اللبنانيّ. عوامل الانهيار والانفجار كثيرة، وهي وإن كان البحث التكوينيّ للوطن له المساحة الكبرى وممدود على أبعد المستويات في النقاش السياسيّ بسبب ظروف المنطقة، ولكون لبنان في قلب المحيط المتأزّم والمتوتّر طائفيًّا ومذهبيًّا ودوليًّا وإقليميًّا. إلاّ أن مسألة الأمن الاجتماعيّ بخصوصياته العديدة ومنها وجود نازحين سوريين وفلسطينيين (تجاوزوا المليونين)، تبقى أخطر وأشدّ إيلامًا من أي واقع آخر على الإطلاق. لقد برهنت الأحداث أن الفقر والفاقة والجوع والعوز، وعدم وجود إنماء متوازن بين المناطق اللبنانيّة، وانكباب كلّ مشاريع الإنماء والإعمار على العاصمة مع إغفال مدن كبرى كطرابلس وصيدا... يؤدّي بدوره إلى الانفجار. وأقرب تجربة كانت تجربة باب التبّانة ولا يزال فقراء النبعة المنطقة الأقرب إلى العاصمة يرزحون تحت وابل الفاقة والجوع. كلّ التيّارات الأصوليّة والإحيائيّة (التعبير للدكتور رضوان السيّد)، والتي أمست فيما بعد سلفيّة وتكفيريّة مشتلها الفقر، رحمها الجوع، منبتها الإهمال. وكلّها طرائق واضحة تبيح الانفجار كما تبيح تغلغل القوى من إقليميّة ودولية وعربيّة لاستهلاكها واستثمارها في تفجير لبنان ومنه المنطقة.

فكيف إذًا والواقع خال من حلول جذريّة وعلميّة بل مليء بحراك استثماريّ يشاء تجذير التلزيم وتثميره بل تسويقه وصولاً إلى الضغط السياسي والاجتماعيّ Chantage في سبيل هيمنة سياسيّة واضحة، كما روى مصدر سياسيّ محايد. وتساءل هذا المصدر عن عدم دعوة شركات أخرى بمواصفات حقيقيّة وعالميّة لتقديم عروض قابلة للدرس والمناقصة فيما بعد؟ لماذا الإصرار الأُحاديّ على التلزيم؟ وكشف المصدر السياسيّ المحايد أنّ الإصرار الواضح المعالم والأفق، على التلزيم من دون شفافيّة صادقة في تقدير الكلفة الواضحة يبقى استمرارًا لتلك المرحلة التي تلت إسقاط الحص في انتخابات سنة 2000 وتأليف رفيق الحريري حكومته وإعادة تلزيم شركة سوكلين بمبلغ 130 مليون دولار... وتساءل المصدر المذكور: على أيّ اساس طلبت شركة سوكلين مبلغًا قدره خمسمئة مليون دولار وهو مبلغ مرتفع جدًّا، ما هي المعايير المالية والتقنيّة المعتمدة لكي توافق الحكومة فيما بعد على مبدأ التلزيم؟ واعترض المصدر المذكور على آلية العمل في هذا الملفّ بحيث يقتضي من الحكومة إذا ما رامت الصدق والشفافيّة أن تستدرج عروضًا وتقوم بمناقصات شفّافة وعادلة لشركات تتقدّم بها وبأسعار واقعيّة وفقَا لمعايير علميّة سليمة يعرفها أهل الاختصاص. وفي معرض التساؤلات أبدى المعترض امتعاضه من هيمنة نظام الفساد على هيكليّته في الدولة بكلّ تفاصيلها وبمقاييسها... فعلى الرغم من قساوة الظروف إنّما يبقى ثمّة حدّ أدنى من الأخلاق المحصّنة لهيكليّة الدولة ونظامها وسيرورتها وقد فقدت كليًّا. وانطلق من رؤيته للتأكيد بأنّ الأخلاق منطلق كبير لتوطيد الديمقراطية القائلة بالفصل بين السلطات كما هو ظاهر في الدستور. هذا موجود في النصّ ولكنّه غير مطبّق على أرض الواقع، ذلك أنّ معظم الطبقات السياسيّة من الفريقين السياسيين موجودين في السلطتين فكيف يمكن المراقبة والمحاسبة، السؤال المطروح بشدّة وكما قال المصدر من يحاسب من ومن يراقب من؟ هل يحاسب الحزب نفسه ويراقب نفسه من المجلسّ النيابيّ إلى مجلس الوزراء، من هنا فقد المجلس النيابيّ قدرته على المساءلة والمحاسبة، كما في هذا الملفّ وسواه من الملفّات، والنصّ الدستوريّ بات مجوّفًا.

إنّ نظام الفساد بثقافته وهيمنته يغتذي من هذا الترابط الواقعيّ، فتمرّر الصفقات بسلاسة وهدوء، كما هو مطروح في مسألة التلزيم... مجلس الوزراء سيجتمع غدًا الثلاثاء للبحث في الصلاحيّات موضوع الخلاف، ولكن ماذا عن مسألة التلزيمات؟

إلى ذلك الوقت سنبقى رازحين تحت وابل الأزمة السياسيّة والاجتماعيّة الحادّة. قد تلزّم شركة سوكلين أو تدعو الحكومة إلى مناقصات، ولكن ذلك لن يحلّ الأزمة. فنحن نسير ضمن مفهوم استقرار هشّ ومعطوب ومتلاش، بالإرادة الدوليّة، نسير وكما كان يقول رفيق خوري، في نظام ممسوك وغير متماسك، فكيف إذا بطل الإمساك وظللنا غير متماسكين؟

فلا بد من حلّ جذريّ لهذا النظام حتى يعود لبنان أخضر... وهذا هو المشتهى.