هي "دولة الفراغ"، التي يتآكلُها الشلل من كلّ حدبٍ وصوب، والتي بات الجمود سمتها الرئيسية، والتعطيل اختصاص ساستها الحصريّ، دولةٌ تكاد تفرغ من كلّ "مقوّماتها"، لدرجة أنّ ما صمد منها يسير بحزمٍ وثباتٍ نحو "الانهيار"..

هي "دولة ​النفايات​"، دولة وُصِفت زوراً يومًا بأنّها "سويسرا الشرق"، فإذا بـ"فضيحة الفضائح" تثبت العكس تمامًا، كيف لا ومشهد النفايات المتراكمة والدولة العاجزة عن طمرها يتصدّر الإعلام الأجنبي قبل المحلّي..

وهي قبل هذا وذاك، دولة الظروف القاهرة، ودولة قطّاع الطرق، ودولة التمديد القسري، ودولة الديمقراطية المقنّعة، دولة تبدو دومًا بحاجة إلى "أوصياء" عليها، لأنّها متى تُرِكت وحيدة، تخرب الدنيا بكلّ ما للكلمة من معنى...

أزماتٌ لا تنتهي..

"اشتدّي يا أزمة تنفرجي". هكذا يقول المثل الشائع. لكنّه في لبنان يتحوّل، فيصبح "اشتدّي يا أزمة لتنفجر أزمة ثانية". هكذا، لا يكاد اللبنانيون يستفيقون من هول "فضيحة" ما تدين طبقتهم السياسيّة غير المكترثة، حتى تنفجر بوجهها أزمة ثانية لا تقلّ خطورة عن الأولى.

ليس الأمر بجديدٍ، بل يكاد يكون من أصل وجود هذا الوطن، وإن بدا "فاقعًا" في الآونة الأخيرة أكثر من أيّ وقتٍ مضى، بحيث لا يتذكّر اللبنانيون أنّ يومًا هادئًا وسالمًا مرّ عليهم، من دون أن تعكّر صفوه أزمة ما من هنا أو هنالك، لدرجة أنّ تعداد الأزمات التي اصطدموا بها في الآونة الأخيرة فقط من سابع المستحيلات.

وإذا كانت القصّة بدأت مع الشغور الرئاسي الممتدّ منذ زهاء أربعمئة وثلاثين يومًا، فإنّها تتمدّد أكثر فأكثر مع كلّ يوم، فالفراغ الرئاسي بات نيابياً أيضًا، بحيث لم تقوَ قوة على فتح أبواب المجلس النيابي، الذي مدّد لنفسه من غير وجه حقّ، لا تحت عنوان "تشريع ضرورة" ولا "شؤون المواطنين"، ويكاد يصبح حكوميًا، مع تلويح رئيس الحكومة ​تمام سلام​ بالاستقالة، بل يكاد يلامس الخطوط الحمراء مع التعيينات الأمنية والعسكرية، التي لا تلوح في أفقها أيّ بشائر يمكن البناء عليها.

أما آخر الأزمات، والتي يصلح توصيفها بأنّها "القشة التي يفترض أن تقصم ظهر البعير"، فكانت أزمة النفايات المتمدّدة في شوارع بيروت وباقي المناطق، والتي تفوح منها إضافة إلى الروائح النتنة والمؤذية بيئياً وصحياً، روائح تكاد تكون كريهة أكثر، ألا وهي روائح الفساد والمحاصصة والصفقات، التي يشترك فيها اللاعبون أنفسهم، الذين يتحكّمون بالبلد ومقدراته، منذ البدء وحتى اليوم.

الاستقالة هي الحلّ؟!

ولكن كيف تعامل السياسيّون مع هذه الأزمة وسواها من الأزمات؟ ما هي الخطوات التي اتخذوها لإنقاذ ما تبقى من هيبةٍ ووقارٍ لديهم؟ وكيف طمأنوا المواطنين بأنّ عين دولتهم ساهرة على حمايتهم وتحصينهم؟

باختصار، لم يفعلوا شيئاً على جري عادتهم، واكتفوا بالتنظير ثمّ التنظير ثمّ التنظير. كما لو كانوا أبرياء من كلّ شيء، تنصّلوا من المسؤوليات، بل تنافسوا على تقاذفها فيما بينهم، ولم يتوانوا عن "تسييسها" في بعض الأحيان، باعتبار السياسة "لعبة رابحة" بالنسبة لهم، هم الذين سيطروا على الشارع، وباتوا يحرّكونه كيفما شاءوا.

وبقدرة قادر، استطاع رئيس الحكومة تمام سلام تحويل الأنظار من "الداء" إلى "أصله"، من خلال التلويح باستقالة الحكومة، لأنّ "صبره نفد". تناوب مستشاروه والمقرّبون منه على التأكيد على أنّ تهديده جدي وأكثر، وأنّه استنفد كلّ الوسائل الممكنة لحلّ الأمور بطريقة أخرى، لكنه لا يقبل على نفسه أن يكون رئيس حكومة غير فاعلة وغير منتجة، وأن يتحوّل إلى حارسٍ لا أكثر ولا أقلّ.

وبعيدًا عن ذهاب الفريق المناوئ لسلام داخل حكومة ما يسمّى بـ"المصلحة الوطنية" للتقليل من شأن وعيد سلام، باعتباره مجرّد "مناورة" يهدف منها إلى "الضغط" على خصومه ليفرملوا حراكهم التصعيدي، فإنّ أحدًا لم يفهم كيف يمكن للرجل أن يعتقد أنّ استقالته هي الحلّ، في حين أنّ أبسط البسطاء يدرك أنّها لن تأخذ البلاد إلا إلى المجهول، بحيث يصبح الفراغ شاملاً، بعد أن ينال من المؤسسة الوحيدة التي كانت لا تزال صامدة، فتصبح كلّ السيناريوهات ممكنة، المُرّة منها قبل الحلوة، وعندها لن ينفع الندم بطبيعة الحال...

هل "استقال" الشعب؟!

ليست المشكلة باستقالة سلام إن وقعت، لأنّ كلّ الأفرقاء من دون استثناء سبق أن استقالوا من كلّ أدوارهم وواجباتهم الوطنية، وتركوا الشعب، الذي يفترض أن يكون "أولوية أولوياتهم" لو كانوا يطبّقون الشعارات الرنّانة التي يرفعونها، "ينزع الشوك بأيديه".

ولكنّ المشكلة الأكبر تبقى حين "يستقيل" الشعب نفسه من مسؤوليّاته، حين يصبح خانعاً وخاضعًا، يقبل بكلّ ما تمليه عليه الطبقة السياسية التي لم ولن تتغيّر، حين يدرك هذا الشعب أنّ هذه الطبقة السياسية تخدعه، وأنّها لا تفكّر سوى بنفسها وبمصالحها، ومع ذلك، يحافظ على وفائه لها، ويهادنها، بل أنه لا يسائلها ولا يحاسبها، لدرجة يرمي بلوائحها "زيّ ما هيّي" في صناديق الاقتراع في أيّ انتخاباتٍ، هذا إن كان هناك انتخابات.

المشكلة حين يتحوّل هذا الشعب إلى "قاطع طرق"، فلا يعود يعرف من طرق التعبير سوى قطع الطرق وحرق الإطارات، وهو يعرف أنّه لا يؤذي بفعلته هذه سوى إخوته في المواطنة، بدليل ما حصل على أوتوستراد الجية يومي الأحد والإثنين، حين أراد أهالي إقليم الخروب قطع الطريق على مشروع تلويث منطقتهم بنفايات بيروت، فإذا بهم يقطعونها على مواطنين حُرموا من زيارة قراهم، أو وجدوا أنفسهم عالقين في أماكنهم، لا حول لهم ولا قوّة.

الانتفاضة.. واجبٌ!

إذا أراد الشعب يومًا الحياة، فلا بدّ أن يستجيب القَدَر..

على الشعب إذاً تقع المسؤولية الأولى، مسؤولية إرادة الحياة، مسؤولية يحتّمها الواقع الذي وصل إليه، والذي قد يوازي بخطورته أشكال الاحتلال والانتداب.

لم يعد مقبولاً أن تمتلئ الساحات بمئات الآلاف تحت عناوين سياسيّة شتّى عنوانها الأوحد المواجهة بين أبناء الوطن الوحد، ولا تتّسع لأكثر من عشرات في أفضل الأحوال تحت عناوين اقتصاديّة واجتماعيّة يفترض أن أن توحّد الجميع..

لم يعد مقبولاً أن يبقى الشعب "لعبة" بيد "تجّار السياسة" الذين يسرحون ويمرحون كما يحلو لهم، والذين يمنّون أنفسهم بـ"حصانةٍ" أثبتوا عدم استحقاقهم لها، والذين وللمفارقة يتّحدون على الفساد والإفساد، رغم كلّ اختلافاتهم الظاهرة..

لكلّ هذه الأسباب والاعتبارات، لم تعد القصّة مرتبطة لا بـ"​8 آذار​" ولا بـ"14 آذار"، لأنّ لا "8" ولا "14" باقية، فـ"الانتفاضة الشعبية" آتية لا محالة عاجلاً أم آجلاً وهي ستطيح بكلّ هذه الاصطفافات والرؤوس، وإلا، فإنّ الوطن نفسه قد لا يبقى...