لقد صمد لبنان، هذا البلد الصغير، الشامخ بعزّته وكرامة أرضه، في وجه الصدمات الجارفة، وذلك بفضل طاقاته البشرية وموارده الطبيعية، وموقعه الاستراتيجي الذي منحه الأهمية القصوى على المستوى السياسي الإقليمي والدولي. فقد تمكّن عبر الزمن من اجتذاب الاهتمام والتعاطف الإيجابي من المجتمع الدولي، ولو كان هذا الأخير في بعض الأحيان مجحفاً بحق الشعب اللبناني الذي استمر في العطاء خلال كل أزمة وكل صدمة، داخلية كانت أو خارجية.

ولا يزال لبنان صامداً، بالرغم من التحديات والصعوبات، واستمر في تقديم الحد الأدنى من الخدمات وسبل الرفاه لشعبه، هذا الشعب الذي لقّن العالم درساً في الإنسانية والنخوة عبر استضافته نحو مليون ونصف مليون لاجئ سوري على أرضه، هذا بالإضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين الموجودين في البلد منذ عقود. وهذا ما يشهده الحاضر وسوف يشهد عليه التاريخ.

لا ننكر بأن للبنان نسيجه الطائفي المختلف وخصوصياته الثقافية الغنية. ومنذ أن نال استقلاله، تأثر هذا البلد بنظام الطائفية السياسية الذي رسم خريطة الدولة عبر العقود. وكان الهدف من إنشاء نظام سياسي بصبغته الطائفية هو تحقيق التوازن بين المصالح المتنافسة للمجتمعات المذهبية المحلية، ولكن ما لبث أن تحوّل هذا النظام ليصبح في نظر الكثيرين عائقاً أمام الحوكمة السليمة، حيث أدّى إلى شللٍ واضحٍ في عملية أخذ القرار وصناعة السياسات، وبالتالي إلى إفراغ مؤسسات الدولة.

وأصدر البنك الدولي أخيراً تقريراً منهجياً يشخص العوائق والقيود الأساسية التي يواجهها لبنان في مجال خلق فرص العمل (من حيث النوعية والكمية)، العامل الذي يعتبر الأهم في عملية الحد من الفقر المدقع وتعزيز الرفاه المشترك. ويعتمد هذا التشخيص على تحليل شامل للأدلّة والحقائق المتوفرة، كما استفاد من جولات استشارية مكثفة تضمنت ممثلين عن القطاعين العام والخاص، وأعضاء المجتمع الأهلي والمنظمات غير الحكومية، وآخرين من المعنيين وأصحاب الشأن. ويشكل هذا التقرير القاعدة الأساس لمواصلة البنك الدولي دعمه للبلد والتزامه تجاه تحقيق الأهداف التنموية المرجوة.

ويبين التشخيص أن هناك عدة عوائق وقيود متداخلة تمأسست عبر النظام الطائفي القائم، وتؤثر سلباً على جهود لبنان في تحقيق الازدهار والنمو، بما في ذلك هشاشة الاقتصاد الكلي، وضعف الاستثمارات في مجال البنى التحتية (وبالأخص في المناطق المحرومة)، وعجز الأطر التنظيمية. وتُقدر الكلفة السنوية للخلل الناجم عن الحكم الطائفي بـ 9 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. نضع هذا التشخيص أمام الأفرقاء والجهات المعنية كافة. وقد يعتبره البعض ناقوس خطر، لكن الأمل يبقى في تجاوز الخلافات التي لا نتيجة لها سوى الضرر، ونحن مستمرون في مساعينا لإعادة تصويب البوصلة نحو أهداف التنمية المستدامة، لكي لا تضيع فرصة العيش الكريم خلف قناع الطائفية.

لقد سعى البنك الدولي، بشكل مستمر، إلى تقديم الدعم لهذا البلد الكريم في كل المجالات. وقد وضع تحت تصرفه ما يتجاوز المليار دولار أميركي لتمويل مشاريع في عدة قطاعات، ونخص بالذكر قطاع المياه الحيوي. ولا تزال المصادقة على مشروع سد بسري عالقة بين أزقة النقاشات السياسية. وتجدر الإشارة إلى أن هذا المشروع سوف يمد أكثر من مليون ونصف مليون مواطن بالمياه الصالحة للشرب وبأقل تكلفة ممكنة. نضيف إلى ذلك قطاع الطاقة الذي تتكبد فيه الخسائر بلا رحمة، حيث تقوم الدولة بدعمه مادياً بما يفوق 2 مليار دولار أميركي في السنة، وبالرغم من ذلك لا يزال المواطن اللبناني يعاني بشكل حاد من أزمة الكهرباء. ونذكر الكلفة الباهظة لعدم الشروع حتى الآن في التنقيب عن النفط والغاز على الشواطئ اللبنانية التي لا تزال هي أيضاً رهينة الاختلافات الداخلية. ويتكرر السيناريو نفسه بالنسبة إلى قطاعي الاتصالات والمواصلات. ونذكر أزمة النفايات الحالية التي تغرق بيروت ومناطق أخرى بأكوامها بسبب سوء الإدارة وتفشي الخلل المؤسساتي. ولا تزال النفايات تتراكم والرائحة الكريهة تتصاعد، ما يشكل خطراً صحياً وبيئياً حيث يحاول المواطنون معالجة المشكلة بالحلول السريعة التي قد تشعل ناراً أكثر خطورة. وتجدر الإشارة إلى أن الدول المتقدمة أصبحت تولد الطاقة عبر معالجة النفايات الصلبة. فحتى النفايات قد تساهم في تحريك العجلة الاقتصادية إذا ما عولجت بالطرق السليمة.

في زيارته الأخيرة للبنان، شدد رئيس البنك الدولي على استعداد المؤسسة لدعم البلد ومساره التنموي عبر كل السبل المتاحة، وبالأخص في القطاعات الحيوية التي ذكرت آنفاً، لكن التحديات على مستوى الحوكمة والممارسات التي تلحق الأذى بمؤسسات الدولة تشكل العائق الأكبر في وجه التقدم والنمو وتمكين تلك المؤسسات من خدمة المواطن وتحقيق المصلحة العامة. وهذا يعكس أيضاً رأي المجتمع الدولي والجهات المانحة التي ترى في لبنان طاقات لا حدود لها، لكنها لا تُستخدم في المجالات الإنتاجية، وبالتالي تكلف الدولة والمواطن الكثير من الفرص الضائعة.

ويقدر البنك الدولي بشكل خاص، والمجتمع الدولي بشكل عام، تداعيات ووقع الأزمة السورية على سلامة الاقتصاد اللبناني ونسيجه المجتمعي. وقد أعدّ البنك الدولي تقويماً لتحديد تكلفة تلك التداعيات على لبنان، وذلك للمساهمة في تعبئة المساعدات التي يحتاج إليها البلد. وندرك أن من واجب المجتمع الدولي أن يرفع سقف الدعم المخصص للبنان وشعبه. لكن التجاوب على صعيد اتخاذ القرار بالنسبة إلى الدعم الدولي المتوفر حالياً يبقى دون المستوى المرجو، ما يعكس إشارات سلبية تُضاف إلى الشلل الحاصل في الدوائر الرسمية، حيث تخسر المؤسسات العامة صدقيتها تجاه الهيئات المانحة في مثل هذه الظروف الصعبة. ونحن نحث على تجاوز الخلافات والسياسات الضمنية التي تشكل عائقاً لتفعيل المساعدات الدولية وجذب المزيد منها.

وكما ذكر التشخيص المنهجي للبلد، فإن الطائفية ليست سوى قناع يؤثر سلباً على المصلحة العامة، حيث تتآكل مؤسسات الدولة من جرّاء الممارسات المؤذية، وهذا يكاد أن يكون أخطر مما مرّ به لبنان خلال فترات الحرب.

يختلف لبنان ويتميّز عن غيره من البلدان في العديد من المجالات، والاختلاف نعمة قدمها الخالق للإنسان ليدرك معنى الحياة، لكن عندما يتحول الاختلاف إلى خلاف، تضيع فرصة العيش. هذه رسالة أمل ونداء موجه إلى المعنيين كافة، لكي لا يتحول لبنان إلى بلد الفرص الضائعة.

* مدير إدارة الشرق الأوسط في البنك الدولي