بعد مُضيّ أربع سنوات وبضعة أشهر من التهديدات التركيّة بالتدخّل في سوريا، بدأت الطائرات التركيّة تُنفّذ غارات ضُدّ أهداف داخل سوريا، لكن ليس ضدّ الجيش السوري، بل ضُدّ مواقع وقوّات تابعة لتنظيم "داعش" الإرهابي، إضافة إلى مواقع لتنظيم "داعش" ولقوّات كرديّة في العراق. وترافق هذا التطوّر اللافت مع حديث قديم-جديد عن وجود مُخطّط لإقامة منطقة آمنة في سوريا سيقوم الجيش التركي بفرضها بدعم من بعض الجهات الخارجيّة. فهل هذا الأمر قابل للتنفيذ؟

بحسب المعلومات المُتوفّرة، جرى أخيراً الإتفاق على صفقة بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية، تقضي بأن تُساهم الأولى في ضرب تنظيم "داعش" الإرهابي، خاصة في شمال سوريا، وأن تسمح للطيران الأميركي وغيره بإستخدام قواعد ومطارات عسكريّة تركية، وفي طليعتها قاعدة "إنجرليك" الجويّة الي تقع في مدينة أضنة جنوب تركيا، وذلك لتنفيذ مهمّات قتالية في الداخل السوري، في مُقابل أن تغضّ الثانية الطرف عن صراع النظام التركي ضُدّ الأكراد، وأن تُعطي "الضوء الأخضر" لدخول قوّات برّية من "الجيش السوري الحُرّ" ومن فصائل مُسلّحة أخرى مُصنّفة "مُعتدلة" بنظر إسطنبول وواشنطن، إلى سوريا وأن تؤمّن الغطاء الجوّي لها.

وبالنسبة إلى ما تريده تركيا من الإتفاق المذكور، فهو يُختصر بالتالي:

أوّلاً: منع الأكراد من إقامة دُويلة كرديّة على الحدود مع تركيا أو منطقة حُكم ذاتي على الأقلّ، لأنّ هذه الخطوة لا يُمكن إلا أن تُؤثّر سلباً على الداخل التركي، لجهة إمكان تشجيعهم على المُطالبة بالإستقلال إنطلاقاً من دوافع عرقيّة، وذلك في ظلّ وجود نحو 22 مليون تركي-كردي أي نحو 20 % من إجمالي الشعب التركي.

ثانياً: الإبقاء على ورقة التدخّل التركي في سوريا بيد تركيا، إنطلاقاً من بوّابة مُحاربة تنظيم "داعش" الإرهابي، وإستغلالها حتى النهاية ليكون لتركيا كلمة مسموعة عند الوصول إلى مرحلة التسوية وإنهاء الحرب في سوريا، وللإحتفاظ بمُسبّبات العداء مع النظام السوري.

ثالثاً: العمل على إعادة نحو 1,8 مليون سوري كانوا هربوا إلى تركيا على مراحل في السنوات الأربع الماضية، علماً أنّ من شأن إقامة مخيّمات للاجئين السوريّين في الداخل السوري أن يصبّ في خانة مُساعدة المشروع التركي الرامي إلى إقامة منطقة حدوديّة آمنة ومحميّة دوليّاً.

رابعاً: تحويل إهتمام الرأي العام التركي من مسألة الإنتخابات ونتائجها إلى مسألة الأمن والإستقرار، وإستنهاض الشعب التركي ضدّ مختلف العمليّات الأمنيّة التي تتعرّض لها تركيا، بعيداً عن الغرائز العرقيّة التي تُهدّد بانقسام داخلي خطير. وعلى المستوى العالمي مُواصلة تركيا محاولاتها المتكرّرة للظهور بمظهر "الإسلام المُعتدل" في مقابل "الإسلام السلفي المُتطرّف".

في المقابل، وبالنسبة إلى ما تريده الولايات المتحدة الأميركيّة من الإتفاق، فهو يُختصر بالتالي:

أوّلاً: خفض تكاليف العمليّات الحربيّة عبر الإستفادة من قواعد تركيّة قريبة من سوريا، لمواصلة إستهداف تنظيم "داعش"، من دون الحاجة إلى التحليق لمسافات بعيدة ومن دون الحاجة إلى إستخدام طائرات تزويد الوقود بالجوّ، إلخ.

ثانياً: الإستفادة من قدرات الجيش التركي الجويّة الكبيرة لضرب مواقع وقوّات التنظيم الإرهابي، وإستغلال الحدود التركية المُشتركة مع كل من العراق وسوريا لتهديد مُسلّحي "داعش" بشكل فعّال وجدّي.

ثالثاً: إعطاء إنطباع بأنّ الحرب على "داعش" تُحقّق التقدّم المطلوب، وتضمّ مزيداً من "الحلفاء" على مستوى العالم، لإستغلال هذا الأمر في الإنتخابات الرئاسية الأميركيّة المُقبلة.

رابعاً: مُحاولة إرضاء تركيا عبر تخفيف مُعارضة مشروع "المنطقة الآمنة" الحدوديّة، ومُحاولة إرضاء بعض الدول الخليجيّة عبر الإيحاء بأنّ هذا المشروع يُمكن أن يستخدم لحماية اللاجئين السوريّين، وليكون قاعدة خلفيّة لفصائل "المعارضة السوريّة المُعتدلة".

في الخلاصة، وبحسب المعلومات المتوفّرة، وفي جوجلة لآراء مجموعة من المحلّلين الأميركيّين والغربيّين المرموقين، يُوجد قرار بإخراج تنظيم "داعش" من شمال سوريا بالقوّة، وتقضي الخطة بشنّ غارات متتالية على مُسلحّي تنظيم "داعش" الإرهابي في مواقع جغرافيّة حُدوديّة مُعيّنة، تمهيداً لدعم وحدات برّية مُصنّفة أميركياً وتركياً تحت إسم "مُعارضة مُعتدلة" التي يُفترض أن تحل ميدانياً مكان إرهابيّي "داعش" بعد تقهقرهم. وهذا الأمر مُمكن في حال تركيز العمليّات العسكرية الجويّة كلّها لتحقيق هذا الهدف، لكنّ المسألة تتطلّب فترة زمنيّة طويلة، وتستوجب خصوصاً إشراك وحدات برّية في المعركة. وبما أنّ لا مجال لمُشاركة الجيش التركي مُباشرة في المعركة، وفي ظلّ صعوبة تأمين العدد الكافي من الوحدات البرّية السوريّة المُصنّفة مُعارضة للنظام ولتنظيم "داعش" في الوقت عينه، فإنّ المشروع القاضي بإقامة منطقة آمنة بطول يزيد قليلاً عن 100 كيلومتر وبعمق يصل في بعض الأحيان إلى 50 كلم. ليس سهلاً على الإطلاق.

إشارة إلى أنّ طول الحدود التركيّة-السوريّة يبلغ 822 كلم. وبالتالي إنّ المنطقة المَنوي إنشاؤها محصورة جغرافياً إلى الغرب من مدينة "عين العرب" وصولاً إلى الشرق من مدينة عفرين فقط. ومن ضمن المشاكل الأخرى أيضاً وجود إنتشار كبير لمجموعات كرديّة مُسلّحة عدّة، أغلبيّتها حليفة لواشنطن وبعضها يُنسّق مع الجيش السوري، الأمر الذي يزيد من تعقيدات الوضع. إلى ذلك، صحيح أنّ النظام السوري عاجز عن مُواجهة الإقتتال على أراضيه بين جماعات مُسلّحة مختلفة، وعن مواجهة الغارات الجويّة أيضاً، لكنّه بالتأكيد لن يقف موقف المُتفرّج في حال بدأ جديّاً تنفيذ مشروع "المنطقة الآمنة" داخل أراضيه، لأنّ هذا الأمر يعني تأمين موطئ قدم للمعارضة المُسلّحة بحماية دَوليّة، أي "سيناريو" شبيه بسيناريو مدينة "بنغازي" التي قلبت نظام الحكم في ليبيا في العام 2011، وهذا ما لا يُمكن أن يقبل به أيّا تكن العواقب.