تأجيل جلسة مجلس الوزراء لمزيد من المشاورات، تأكيد على عقم الأزمة، وتثبيت لعمق الصراع السياسيّ، وهو جزء من الصراع في المنطقة وعليها. لم تعد الحلول ملك اللبنانيين، على الرغم من محاولة بعضهم التخفيف من وطأة هذا الكلام وحدّته، لكنّ التخفيف لا يملك قوة حجب التجفيف المهيمن على واقع الأمور، بحيّزها السياسيّ وتفلّت الأمن الاجتماعيّ، وما قضيّة النفايات في لبنان سوى جزء من هذا التفلّت الدائريّ المتشعّب الاتجاهات والرؤى.

في خطابه الأخير، دعا الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله، "تيار المستقبل" النزول من برجه العاجيّ والتحاور مع "التيار الوطنيّ الحر"، وقال كلامًا واضحًا ودقيقًا: "نحن لسنا وسطاء، نحن طرف"، وتفسير ذلك بأنّ "حزب الله" وحّد نفسه مع "التيار الوطنيّ الحرّ"، في معركة التعيينات على الرغم من التعقيدات المحيطة بها، وارتباطها بالواقع الميدانيّ في سوريا وجرود عرسال، لتبنى الصفقات والمقايضات على النتائج الطالعة من أرض المعركة، أو ربما التأهّب لمعركة واضحة وحاسمة في عرسال، لتبنى صفقة التعيينات عليها وصولاً إلى مسألة انتخابات رئاسة الجمهوريّة.

وفي هذا الاتجاه المتراكم، ليس من استقلال في العناوين الداخليّة عن الصراع المتفجّر في الإقليم الملتهب، على الرغم من التمايز في بعض الخصوصيّات بين الداخل والخارج. ذلك أنّ الاتجاهات بمعظمها تشي بجيو-سياسيّات جديدة تنشأ في المنطقة معتمدة على عنوان عريض وكبير هو الاتفاق الدوليّ-الإيرانيّ. بهذا المعنى، ليس لبنان وحده في أزمة تكوينيّة-كيانيّة... وبمعنى أوضح، وكما تذكر بعض الأوساط، لن يتمّ إسقاط سايكس-بيكو بالمطلق، ولن يتمّ تجويف مضمونه الجغرافيّ، بل سيتمّ تحديثه بإطار متوازن، بعدما فهم العالم أنّ تنامي القوى التكفيريّة وبخاصّة تنامي منظمة "داعش" يمثّل خطورة استراتيجيّة على الأمن العالميّ بمفهومه الحاليّ.

مفهوم الارتجاج السائد في الكيان اللبنانيّ جزء من هذا الصراع المتفشي، والذي من شأنه أن يفضي إلى تلك الرؤية المتجسّدة بآفاق الاتفاق، فالطريق نحو ترسيخ الاتفاق محفوفة بمخاطر عديدة داخل المجتمعين الأميركيّ والإيرانيّ، غير ان مفاهيم اللقاءات على هامش الصراع بين مسؤولين سوريين وسعوديين، وإن كان رسوخ مضمونها غير مؤّكد، إنّما ما هو مؤكّد أن ثمّة استجماعًا للأوراق يتمّ على الأرض في لبنان والعراق واليمن، في وقت يبدو الشمال السوريّ وبحسب المراقبين مأخوذًا إلى حسم واضح يقوده الأكراد على الأرض بحضّ أميركيّ ورضى إيرانيّ، وبنأي يمارسه الأميركيون على الأتراك بضرب الأكراد بعد التوغّل في شمال سوريا سواء في الطريق نحو جرابلس والسير على ضفاف نهر الفرات ومحاصرة الرقّة على الحدود السوريّة-العراقيّة. وتظهر بعض الأوساط المراقبة بأنّ الأميركيين "اشترطوا على المخابرات التركيّة بعدم مقاتلة الجيش السوريّ مع توقيع تعهدّات بذلك، إذا ما قرروا قتال تنظيم داعش"، وهذا وبحسب توصيف تلك الأوساط وتشخيصها، تغيير واضح في المفاهيم الأميركيّة تجاه سوريا وجيشها ونظامها، وهو أوضح استنتاج يمكن للمتابع الخلوص إليه. الميدان السوريّ، وبهذه الرؤى، مدى لمعركة تجذير الاتفاق الدوليّ-الإيرانيّ، وما يحصل في الميدان مفردات وتمتمات تجذيريّة.

الأزمة الحكوميّة اللبنانيّة مضاف عليها التفلّت الأمنيّ العميم تلاشي الأمن الاجتماعيّ ومن ضمنها أزمة النفايات وصولاً حتمًا إلى المسألة الصعبة والجوهريّة وهي أزمة رئاسة الجمهوريّة جزء مهم من هذه المعركة في المنطقة. وفي تقويم داخليّ، إنّ العطب في مدى الاستقرار بإمكانه أن يحدث الفجوات، ويقود نحو الانفجار. تراكم الأزمات في المدى اللبنانيّ لا يشير إلى ثبات الاستقرار ومتانته، والخوف أن يبطل فعل الإمساك بالأمن اللبناني في ظلّ غياب التماسك السياسيّ اللبنانيّ، "فتكون الضلالة الأخيرة شرًّا من الأولى".

على هذا تلفت جهّات سياسيّة اللبنانيين بألاّ يسكروا بمشهد الاستقرار الممسوك بالمعنى الدوليّ والإقليميّ، هذا المشهد لا يشي بعافية الجسد اللبنانيّ فهو غير مديد، ومهدّد بفعل التآكل بالانهيار. يكفي أزمة النفايات بقرفها ونتانتها لتكشف هشاشة الواقع العام ومعطوبيّته، وتظهر، تاليًا، البون الشاسع بين طبقة سياسيّة لاهثة وراء مكاسبها بصفقات آحاديّة أو ثنائيّة على حساب الناس وخزينة الدولة، وبين المواطنين المتعبين والمنهوكي القوى، وهم بدورهم قد خدّرتهم العلاقة الزبائنيّة مع طبقة تتوسّلها معه في سبيل تثبيت زعامة فارغة متهالكة بكلّ ما للكلمة من معنى. وما يوجع في الحقيقة أنّ لبنان كوطن وكيان ليس قائمًا في الوجدان والقلوب، وكأنّنا بصلفنا نتمّم ما قاله حزقيال النبيّ في العهد القديم: "إفتح بابك يا لبنان فيأكل النار أرزك"، لقد أكلت النار أرز لبنان على مدى أكثر من ثلاثين سنةـوها هي تنقضّ عليه وعلى جباله الشمّاء الخضراء بهذه الرؤية السوداء المترابطة بهذا الصراع الوجوديّ والتكوينيّ في مدى المشرق العربيّ بالأطر السياسيّة والتفلّت الاجتماعيّ والاقتصاديّ.

لا ترتبط المسألة اللبنانيّة حصريًّا بالحلول والتسويات الخارجيّة، بل هي بدورها داخليّة. وقد أمسى لبنان هجينًا بفعل الممارسات الشاذّة قمن يحاسب من؟، طالما أنّ الوزراء والنواب في السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة يمثلّون الاتجاهات السياسية بمعسكري 14 و8 آذار بهذا الاصطفاف الفاعل والمؤثر على مجريات الأحداث السياسيّة، وقد تدحرج بفعلها لبنان من هالة الدولة إلى حالة المزرعة يتقاسمها من هم من الصف الأوّل والبقيّة تبّع لهم.

كلّ هذا يقود إلى واقع جديد. "فالأشياء العتيقة قد مضت"، وبهذا المعنى لن يكون لبنان في حقيقته وجوهره بمنأى عن مؤتمر تأسيسيّ جديد، يستدلّ عليه من حالة المنطقة. سنبقى أسرى الفراغ الدستوريّ، مع نوّاب في الأساس مدّدوا لأنفسهم خلافًا للدستور وتلك خطيئة عظمى بحقّ لبنان وشعبه وتاريخه، بحقّ مؤسساته وانتظامها الدستوريّ والسياسيّ، وتدلّ المعلومات بأنّ المعطيات الحالية والواقعيّة لن تقود إلى تعيينات أمنيّة، بل إلى سيرورة التمديد حتّى يتمّ الحسم في الميدان السوريّ. السؤال المطروح هل تأكيد السيّد حسن نصرالله بأنّه طرف وليس وسيطًا، يؤسّس لمرحلة جديدة من الصراع؟ حتمًا لم ينطلق كلامه من عدم، بل من وعاء كبير بدأ بالرسوخ وسيزداد مع الأيّام رسوخًا في لبنان وسوريا والعالم العربيّ، وعاء عمّد بالدم ولكنّه موطّد بهذا الاتفاق الذي وبحسب مصدر سياسيّ سيدفع بحزب الله نحو مزيد من المبادرات الخلاّقة والآحاديّة في حسم العناوين من الميدان إلى رئاسة الجمهوريّة.

وليس لنا في النهاية سوى القول مع الشاعر الخالد سعيد عقل:

"بل سنبقى ويبقى فوق صخرته لبنان قهّار مما غيرهم قهروا

قال نمضي من خطر إلى خطر ما همّ نحن خلقنا بيتنا الخطر"