في ربيع العام 2014 أطلّ رئيس لجنة الأشغال النيابية محمد قباني ليطالب بتشكيل لجنة طوارىء مائية، بهدف التعويض عن تدني مستوى متساقطات الأمطار ومواجهة الشحّ بالمياه.. محمد قباني نفسه الذي كان يُهاجم مشاريع إنشاء السدود التي كان يسعى إليها المهندس جبران باسيل عندما كان وزيراً للطاقة.

كالعادة، لم تتشكَّل اللجنة العتيدة، واجترح النائب قباني "المعجزة"، وقرر استيراد المياه من تركيا عبر البواخر، فكان من حق اللبنانيين يومذاك التساؤل عن سبب تخّلف الدولة في البحث عن مصادر بديلة، عبر بناء معامل تحلية مياه البحر أسوة بكل الدول التي تعاني من شح دائم بالمتساقطات المائية، فكيف حري بلبنان الغني بالمياه الجوفية من جهة، ومن جهة أخرى توفر إمكانية بناء معامل تحلية إلا إذا بات شاطىء البحر حكراً على حيتان البر وسلاطين المال وبُناة المنتجعات والفنادق ومصادرة المسابح الشعبية؟

محمد قباني، البيروتي العريق، لا فرق عنده أين تُطمر نفايات بيروت، لأن المهم أن تبقى العاصمة نظيفة ولو ملأت النفايات كل لبنان، ووقوفه إلى جانب شركة "سوكلين" ليس من منطلق أنها شركة رائدة في عمليات جمع ومعالجة النفايات، بل لأنها إرث مالي وسياسي من "المعلّم الراحل" إلى "المعلّم الحالي"، و"الدّيك" مطلوب أن يصيح حتى من على "مزبلة" أو مطمر زبالة، ولو كان المطمر في جهة بشامون أو عرمون، حيث تسكن غالبية أبناء بيروت من الناخبين!

هنيئاً لبيروت بالنائب قباني المدافع عن حقوقها، وليغرق أبناء عكار بـ"النفايات الحريرية"، سيما أن عكار موعودة بخمسين مليون دولار للإنماء منذ العام 2005، وأُعيد تأكيد الوعد عام 2009، وتمّ التمديد للمجلس النيابي عام 2013 وعام 2014 حتى 2017، فيكون "الأخضر" الموعود قد تمّ تصريفه وتحويله إلى نفايات تقضي على ما تبقى من أخضر في عكار، ومن كرامة لأهلها.

ثم من قال إن الثنائي التكفيري خالد الضاهر ومعين المرعبي سيسمحان لطليقهما سعد الحريري برمي النفايات في عكار، والحريري يعرف أن سهل عكار لم يعد مرتعاً له، وإذا كانت بيروت ما زالت جزئياً تحفظ له بعضاً من شعبية، وله "مَونَة" عليها، فهي تحديداً في بيروت الثالثة، والناس بعد غيبته الطويلة لم يعُد يرضيها تخليصها من النفايات، لأن وعود الحريري كانت "المن والسلوى" لكافة مناصريه في كافة المناطق، وأثبت أنه أعجز من أن يكون نائباً عنهم، فكيف برئيس كتلة برلمانية أعضاؤها ليسوا أكثر من أبواق خائبة لن تُعيد له العزّ الذي كان؟

النائب وليد جنبلاط "باعهم إياها" لجماعته، وأعلن عدم الموافقة على الطمر في المنطقة التي يملكها في سبلين، ولا قَبِل التمديد لمطمر الناعمة، "وَلَبَط" المعتصمون أرجلهم في الأرض على مدخل المطمر، وأشادوا بمصداقية وليد بك، وأنه كما وعد وفى، وباتت حتى النفايات سياسة و"تبييض وجه" مع الناخبين وتحقيق أماني المواطنين، وبات حلم كل لبناني ألا تطمره الزبالة، لكن رجل الأعمال جهاد العرب الذي قطف مع أبناء عائلته كافة التعهدات من الدولة في زمن الحكومات الحريرية، حاول ردّ "الجميل" لهم عبر إنقاذ بيروت من نفاياتها، فقدّم موقع كسارة يملكها في سبلين، وأطلق يد "سوكلين" في الطمر، مما استفز أبناء إقليم الخروب، فلجأوا إلى قطع الطرقات.

وإذا كان ملف النفايات - على خطورته - سلاحاً بيَد من لا يرغبون تحديد آلية عمل لمجلس الوزراء تتوافق مع الدستور، وإذا كان تجاهل مطالب "التيار الوطني الحر" يُعتبر وكأن الخلل الحاصل في السلطة التنفيذية يهم فقط العماد ميشال عون، فإن الواقع مؤلم أكثر مما يتوقع الرئيس تمام سلام وفريقه ممن أرادوا الخصومة مع الجنرال، لأن لبنان نتيجة الشحن المذهبي والسياسي والسلطوي عند كل أزمة أمنية أو اجتماعية أو اقتصادية أو بيئية، يتجاهل مسؤولوه هموم الناس وتطفو على السطح خلافات وأحقاد؛ تماماً كما تطفو نفايات المطامر، وتتظهر الفضائح المالية والسياسية والمناقصات المشبوهة، والهدر الفاضح في المال العام.

مخطئ من يعتقد أن أزمة النفايات ولعبة المطامر ستجذب الاهتمام عن الجرائم الكبرى في طمر الحقوق المسيحية بالشراكة الحقيقية، وها هو الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله يُسمي في إطلالته الأخيرة "تيار المستقبل"، ويدعوه صراحة للنزول من برجه العاجي ومحاورة "التيار الوطني الحر"، وخلاف ذلك هو هدر للوقت، وكفى إغراقاً البلد في موضوعات بمستوى معالجة النفايات، لأن من كانت النفايات "مقلع ذهب" بالنسبة إليه على مدى نحوٍ من ربع قرن، هو المسؤول الوحيد عن معالجتها وطمرها على مسؤوليته، وكفى طمراً للارتكابات بحق الشعب اللبناني في همومه اليومية، وكفى طمر ارتكابات الفظائع بحق شركاء الوطن، لأن لبنان لا تُعالج قضاياه الوطنية عبر طمر المخالفات وطمر الرؤوس المريضة بالسلطة خلف مطامر النفايات .