في محرّكات البحث الدستورية البحث جارٍ عن دولة يرتبط اسمُها بوطنٍ يُدعى لبنان فتغدو الدولة اللبنانية. قد تكون مكتومة القيد، وقد تكون ابنًا غير شرعيٍّ، وقد تكون ابنًا مشوّهًا بثقوبٍ قلبيّة أو إعاقاتٍ جسديّة وفكرية، وقد تكون ابنًا حملت به أمّه بالكثير من الدنس وأجهضته قبل أن تلِده.

لا تشمل رحلة البحث الشاقة تلك، عشيّة العيد السبعين للمكوّن الوحيد الباقي على قيد الحياة في هذه الدولة، الغوص في مفهوم الوطن الذي تتوفر عناصرُه ظاهريًا من أرضٍ وشعبٍ وسيادة، بل تقتصر على مقوّمات الدولة المفقودة في كلّ زاوية والتي قد تدفع محرّكات البحث العالمية الى إسقاط الكلمة من معاجم بحثها الواسعة. فهل ما زال لبنان يمتلك مقوّمات الدولة بكلّ ما تنطوي عليه تلك التسمية من شروطٍ ومعايير دستورية وقانونية واجتماعية؟

من الفوضى الى الانتظام

بعيدًا من الأدبيّات الوطنية التي قد يخرج أهل الحجّة بها ليقولوا إن لبنان ما زال وطنًا أفضل من أوطان كثيرة مجاورة من قبيل تلك التي تشهد حروبًا ودمارًا وعنفًا، أوّل ما يقفز الى الأذهان عندما ترد كلمة دولة إنما يتجسد في المؤسّسات العاملة فيها والسلطات القائمة “بشرفٍ وتباهٍ لبنانيَّين” على مبدأ فصل السلطات. هذا في الصورة الورديّة، لكن ماذا في الملموسات؟ الدولة اللبنانية، أو ما يُسمّى “الدولة اللبنانية” فاقدة لأهم معايير تحوّلها من الفوضى الى الانتظام: رأسُها. لا رئيس لجمهورية الشغور وصلاحياتُها منوطة وكالةً بمجلس وزراء لا يجد الى التناغم سبيلاً. وبالحديث عن ذاك المجلس، أبرز ما يجيد فعله “الترحيل” وليست الآلية التائهة في المماحكات والأخذ والردّ سوى شاهدٍ على فرضيّة سقوط مؤسسةٍ جديدة من مؤسسات الدولة وهي الحكومة ما إذا بقي التنافر عنوانًا بديلاً لذاك الذي اتخذته منذ ولادتها: المصلحة الوطنية.

بدعة...

وتدرّجًا في السلطات، المجلس النيابي، أبو التشريع، مشلول هو الآخر. يعودُه النواب بين حينٍ وآخر لحفظ ماء وجه سيّده في جلسات تمثيل رئاسيّة يطير نصابُها بسرعة ضوئيّة ولا يؤمُّها حتى حضورًا في جلسات ما سُمّي بتشريع الضرورة والتي ما هي في المنظار الدستوري سوى “بدعة” لمجلس ليس من المفترض أن يلئتم إلا لانتخاب رئيس إذ لا ضرورة تفوق تلك الضرورة. وإذا كانت الرئاسات الثلاث في خندقٍ واحد من حيث التشابه والتلازُم في حالة الشلل والتعطيل بأوجهٍ مختلفة، فإن السلطة القضائيّة التي تعيش عطلتها هذا الشهر ليست على أفضل ما يُرام أيضًا بحكم التدخّلات السياسيّة التي قد تفضي الى محاكمة ناشطٍ مدني بتهمة “إثارة الشغب” اعتراضًا على أكياس قمامة متراكمة في شوارع الذلّ، من دون أن يصدر أي قرارٍ بمحاكمة من تسبّب بهذه المشهدية المقرفة عند باب كلّ بيت.

سقوط العقد...

وتذييلاً لتلك الثغرات والشواغر الفادحة، ومن دون الغوص في سلّة الحقوق والمطالب التي تبدأ بالأساتذة والمستأجرين والمالكين والمياومين وسواهم من ذوي الصرخات المعيشيّة، لم يكن العقد الاجتماعي ليسقط رغم كلّ ما ذُكِر آنفًا لو لم تتحوّل الساحات النهارية كما المفترقات الليلية الى مسارح قتل رخيص طعنًا بالسكاكين أو رميًا بالرصاص. مخطئٌ من ظنّ أن انبعاث العقد الاجتماعي بعد جريمة كترمايا الشهيرة سيؤدي الى صموده أمام قسوة جرائم متنقلة بين المناطق ليست جريمتا قتل جورج الريف والمقدم ربيع كحيل سوى فصلين بسيطين من فصولها الوحشية التي ما عادت وحشيّة في قاموس يوميات اللبنانيين. ربّما هي العادة وربّما هو سقوط ذاك العقد ببساطة. سقوط ذاك العقد الذي يكفي وحده لإنهاء حياة دولة لا بل حضارة عن بكرة أبيها... ومع ذلك يستمرّ كلُّ شيء وفق معادلة “بالتي هي أحسن".

أهي دولةٌ؟

أمّا وقد يحاول بعضهم محو كلّ ما سبق فيصوّر أن الحياة في لبنان طبيعيّة وأن عجلات الدولة وإن كانت مقصّرة إلا أنها لا تعطّل مشاغل الناس ولا تأكل عليهم لقمات عيشهم وأرزاقهم المتمثلة في رواتبهم الشهرية، فأن يحصل ما لم يحصل في دول الدمار والخراب لا يمكن محوه بهذه السهولة. أن يغرق وطنٌ بسبب اللادولة في نفايات شعبه واقعةٌ يصعب محوُها. أغرب ما في ردود أفعال “أهل النفايات” تأكيدهم أنهم لم يعيشوا مثل هذه المأساة حتى في زمن الحرب الأهلية الشرسة، وحتى في زمن الجوع إبان الحروب والاستعمار والانتداب والاحتلال. النفايات تأكل الدولة، تلتهمها، تبتلع ثوراتٍ يفاخر بعضهم بتسميتها “ثورات”، تخنق سياحة يفاخر بعضهم بجعلها عصبًا اقتصاديًا في زمن الشلل... أهي دولة تلك التي لا تسوس نفاياتها قبل بشرها؟ أهي دولةٌ تلك التي لا تبقى فيها مؤسسةٌ واقفةٌ على قدميها؟ أهي دولةٌ تلك التي يسرح فيها جناةٌ ويبقى عسكريوها مخطوفين؟ أهي دولة تلك التي لا يستطيع زعماؤها إنجاز ملفاتٍ بديهية من قبيل انتخاب رئيس للجمهوية ومجلس لممثلي الشعب وتعيين قادة أمنيين بدلاً من الإمعان في التمديد؟ أهي دولة تلك القائمة بحكمةٍ إلهية أو بغضبٍ إلهي على سياسات الإلهاء والتسويف والإرجاء والترحيل؟ أهي دولة تلك التي لا تجيد إدارة ملف نازحيها؟ في المفهوم الأدبي العام كلاّ، أما في المفهوم الدستوري الموثّق في الكتب فالجواب ضبابي ليس لأن النصوص ضبابيّة بل لأن استنسابها لصوصية.

السلطات الناظمة للمعايير

يؤكد المرجع الدستوري والقانوني بول مرقص لـ“​صدى البلد​” أن “مقومات الدولة موجودة لكن المعايير مفقودة، من هنا على السلطات الناظمة للمعايير الدينية والنقابات والجمعيات والمراكز التربوية أن تستنهض الوطن وأن تأخذ دورها وأن تتفعّل في سبيل استعادة الدولة أي تلك التي ما زالت لدينا منها مقوّمات خصوصًا أن الدولة تتلاشى. فعندما يفرط عقد الدولة تبقى هذه السلطات بدورها الجوهري في المجتمع”. ويشير مرقص الى أن “عقد الدولة لم يفرط بعد والأنظار شاخصة نحو هذه السلطات الرديفة، وهذا الأمر مقتبسٌ من شروح الأسس الدستورية لقيام أي دولة”. ولكن أين هي هذه المقوّمات في ظلّ الشلل المؤسساتي المعمَّم؟ يتلقف مرقص: “الشلل هو شللٌ خطيرٌ ولكنه ليس تامًا وشاملاً. هو خطيرٌ لأنه بنيوي يتناول الحكومة والمجلس النيابي أي السلطتين التنفيذية والتشريعية لذا هو شللٌ عمودي وليس أفقيًا، بمعنى أن سائر مظاهر السلطة التنفيذية ما زالت قائمة أي الجيش والسلطات النقدية والمالية كما أن الإدارات موجودة لكنها غير فاعلة".

ليست فاضلة...

إذًا، البحث جارٍ عن تلك الدولة التي لا يطلب ناسُها أن تكون “فاضلةً” بصفاتٍ أفلاطونية ولا مقدّسة بصفات “أغسطينوسيّة”، بل أن تليق بوطنٍ لا ينشد الكثير. لا ينشد سوى أن يجد له أحدٌ من أبنائه دولةً في أحد محركات البحث بعدما فقد كلّ مقوماتها باستثناء مكوّن يتيم يكافح كلّ أنواع النفايات الحدودية والداخلية: جيشُه. المطلوب دولة، لمن يجدها الاتصال على أي رقمٍ يبدأ برمز 961...