تنتظر "قشلة" صيدا الاثرية منذ سنوات ان تمد لها يد الترميم لتنفض عنها غبار الاهمال والنسيان معا، ولتعيد فتح اقفال ابوابها الحديدية الموصدة بالاصفاد وقد صدأت، بعد الاتفاق الذي وقع بين مجلس ​بلدية صيدا​ الاسبق والمؤسسة الثقافية الايطالية عبر مجلس الانماء والاعمار في العام 1997 لاعادة ترميمها وصيانتها من جديد بما يتناسب مع موقعها التاريخي بحيث تتحول إلى معلم أثري أو محترف بلدي يشكل حلقة وصل هامة بين المعالم السياحية والأثرية قرب مرفأ صيدا ومدخل صيدا القديمة وصولا الى القلعة البرية.

ويعود تاريخ بناء "قشلة صيدا" إلى القرن السابع عشر، إذ بناها آل حمود في العام 1712، وتحديداً أبناء علي حمود، وهي تقع عند الطرف الشرقي لمدينة صيدا في شارع الشاكرية، وتجاور سوق "الكندرجية" وكان يطلق عليها اسم "خان الحمص" على غرار "خان الرز"، إذ كان يخزن فيها الحمص نظراً لقرب موقعها من ميناء صيدا وقد اطلق اسم "القشلة" عليها ارتداداً لاسم "قشلاق"، أي المعسكر الشتوي، ولكن الأهالي في صيدا راحوا يطلقون عليها اسم "القشلة" اختصاراً وسهولة فاشتهرت به.

واهمية "القشلة" تكمن في كونها الخان الوحيد في لبنان المؤلف من ثلاثة طوابق، إذ ان جميع خانات لبنان مبنية فقط من طابقين، وفق ما يؤكد الباحث والمؤرخ الصيداوي الدكتور طلال المجذوب الذي اشار الى أن هناك رأيين حولها، الأول: يقول انه اضيف إليه الطابق الثالث، والثاني: يؤكد فيه الباحث التاريخي الدكتور صالح لمعي انه مبني في الأساس من ثلاثة طوابق، وقد تعاقب عليها العثمانيون الذين استخدموها كمركز للشرطة، ثم تبعهم الفرنسيون الذين جعلوها مركزاً للدرك، ثم اشتهرت على انها سجن، وما زال كبار السن من الصيداويين يتذكرون حكاية الشهيد معروف سعد مع "القشلة" حين قاد عام 1936 تظاهرات غاضبة ضد الانتدابين الفرنسي والبريطاني، واعتقل بعد اقتحامها انتقاماً لاستشهاد عدد من المناضلين الصيداويين برصاص الدرك.

وقد وقع قديما خلاف حول ملكيتها بين آل حمود والدولة اللبنانية، ورفع آل حمود دعوى قضائية من أجل استرداد ملكيتها، لكن الدولة وضعت يدها عليها وحولتها إلى مركز للدرك وسجن، وأطلقت عليها اسم "ثكنة الشهيد بهيج حجيح" وعمدت منذ سنوات عديدة إلى اخراج المهجرين الذين قطنوا فيها قسراً عقب الأحداث اللبنانية وتحديداً في منتصف التسعينيات.

استثمار وتسليم

وقبل سنوات وقعت بلدية صيدا برئاسة رئيسها الاسبق هلال قبرصلي اتفاقا بينها وبين المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، بموافقة وزارة الداخلية والبلديات ووزارة المالية، قضى بأن تقوم الأولى باستثمار "القشلة" لمدة 99 عاماً، مقابل أن تستثمر الثانية مبنى يعود ملكيته للبلدية، وتشغله قوى الأمن الداخلي كمخفر للدرك قبالة حسبة صيدا الجديدة للمدة ذاتها، وقد جرت عملية التسليم والتسلم قبل ثلاثة ايام من موعد الانتخابات البلدية، وقبل انتهاء ولاية المجلس البلدي الاسبق برئاسة قبرصلي.

ووفق نص الإتفاق، فإنه يحق لبلدية صيدا التصرف بالمبنى القائم على العقار 3/29 المؤلف من طابق أرضي وطابقين علويين منفصلين، بإعادة ترميمه وتأهيله وتحويله إلى معلم أثري لا سيما أن موقعه هام ومناسب عند طرف المدينة القديمة وقبالة قلعة صيدا البحرية، واستخدامه لمدة 99 عاماً، بينما يحق للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي استخدام مبنى في العقار رقم 218 الدكرمان العقارية - قضاء صيدا، والذي يشغله درك صيدا حالياً كمخفر قرب حسبة صيدا الجديدة، وسجل محضر التسلم في قلم الشؤون الإدارية في بلدية صيدا بتاريخ 2004/5/20 تحت رقم 1436.

بلا سجناء ومهجرين

اليوم تبدو "القشلة" مهجورة، وقد اقفلت أبوابها بالأصفاد الحديدية، وتحول مدخلها الرئيسي إلى ما يشبه السوق، حيث وضعت البسطات أمامه، اما في الداخل، فتبدو الأبواب مشرعة دون أي مساجين، بعدما غادروها إلى غير رجعة منذ عقود طويلة، وبلا مهجرين بعدما تركوا بصمات تدل على أنهم تعاقبوا عليها، وترجمت بشعارات وطنية وبعبارات عن آهات التشريد واللجوء.

كل شيء داخل "القشلة" يذكر بالسجن سواء لجهة الأبواب الحديدية أو النوافذ المغلقة، حتى الغرف حافظت على صورتها من الرفوف إلى تعليق أغراض المساجين، إلى الصمت الذي يقطعه بين وقت وآخر أصوات الباعة الوافدة من السوق الملاصق والطوابق الثلاثة بقيت على هياكلها، الباحة الداخلية اكتست بالأعشاب، الطابق الأول: غرف عبارة عن زنازين، فيما الممرات قد تآكلت بفعل عوامل الزمن، وبدت القناطر متهالكة، والطابقان الثاني والثالث: كانا يستخدمان للإدارة وتتداخل فيهما بعض الزنازين.

الصيداوي ابو علي عثمان، واحد من الذين ارتبطوا مع القشلة بذكريات عائلية اذ كان جده طباخا لها حينما كانت سجنًا قبيل الاحداث اللبنانية عام 1975، يقول "كلما دخلت الى السوق، وقفت على بابها وقلت آن الاوان ان يعاد ترميمها وتأهيلها وصيانتها وتحويلها الى مركز تجاري او سياحي او محترف مهني او تراثي يخدم المدينة ويوفر فرص العمل ويشجع اصحاب المهن القديمة على الحفاظ عليها من الانقراض امام الحداثة وعصر التطور"، موضحا ان عمال بلدية صيدا يدخلون اليها بين الحين والاخر، ويقومون بتنظيفها واحيانا اخرى تتفقدها وفود وشخصيات وتطلع على واقعها المزري ثم تغادر وتبقى هي على حالها من النسيان".

ويشير احمد عيطور إلى ان القشلة تستحق من المسؤولين كل اهتمام، فهذا المبنى الاثري القديم والضخم يجب ان يعاد ترميمه والاستفادة منه في هذا الموقع الجغرافي الهام، فهو نقطة تلاقٍ وتواصل بين الواجهة البحرية والمدينة القديمة قبالة القلعة البحرية، ويقع في منطقة ذات حضور سياحي الى جانب خان الافرنج وخان الرز والقلعة وخان الصابون والاسواق الشعبية ويقصدها اللبنانيون من مختلف المناطق اللبنانية اضافة الى سواح عرب واجانب، مؤكدا أنّها "يجب ان تسوى اوضاعها ويعاد فتحها امام الزوار ولو كمعلم اثري مثل القلعة البحرية وخان الافرنج".