يبدو من الواضح أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، الذي خسر الجولة الأولى من معركته مع إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لمنعها من التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني، رغم حصوله على دعم الكونغرس الأميركي، قرر اليوم خوض جولة ثانية من المواجهة مع الإدارة الأوبامية في الكونغرس لمنع المصادقة على الاتفاق، مع العلم أن الاتفاق قد أصبح ساري المفعول لمجرد موافقة مجلس الأمن الدولي عليه ورفع جميع العقوبات التي كان قد فرضها على إيران، فيما الاتحاد الأوروبي كان قد سبقه إلى ذلك، ولهذا بقي الشق المتعلق برفع العقوبات الأميركية عن إيران مرتبطاً بموافقة الكونغرس على الاتفاق، أو بلجوء اوباما إلى استخدام الفيتو في حال رفض الكونغرس.

ومع أن حظوظ نتانياهو في تحقيق ما يصبو إليه ليس أفضل حالاً من الجولة الأولى من المعركة، خصوصاً أنه قد خسر من الآن أكثر من نصف الجولة الثانية إذا لم نقل كل الجولة، فإنه يمكن القول إن نتانياهو قد مني بهزيمة كاملة في مواجهته الإدارة الأميركية، ومعها الإدارات الغربية الداعمة لإسرائيل في السراء والضراء، لأنه تورط في محاولة الوقوف في طريق مصالحها وعدم احترامها وتجاوزه الخطوط الحمر في العلاقة مع الولايات المتحدة والدول الغربية.

فإسرائيل عندما تقف في وجه المصلحة البراغماتية الأميركية الغربية، التي اقتضت التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران، إنما تصبح وحيدة في العالم في معارضة الاتفاق النووي، فكيف بها تستطيع تعطيل تنفيذه.

في خطابه الذي كان موجهاً أساساً إلى الجمهور اليهودي وأنصار إسرائيل في الكونغرس، قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري مدافعاً عن الاتفاق: «إنه إذا رفض المشرعون الأميركيون الاتفاق النووي فسيتهم العالم إسرائيل، التي ستجد نفسها في عزلة أشد من أي وقت مضى، وبعدها سوف ينهار التحالف الدولي الذي بلوره الاتفاق مع إيران، وستلغى العقوبات وستغدو إيران حرة في تطوير مشروعها النووي، زاعمة أن أميركا أخلت بالاتفاق».

هذا الكلام لرئيس الدبلوماسية الأميركية كان معبراً بدقة عن أن أحداً، حتى ولو كان أميركا، لم يعد بإمكانه منع تنفيذ الاتفاق وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ومن ثم لا خيار أمام الكونغرس ومن ورائه إسرائيل سوى التسليم بذلك والعمل وفق خطة الإدارة الأميركية التي وجدت بخيار الاتفاق أقل الخيارات سوءاً وضرراً على إسرائيل وأميركا معاً، طالما أن خيار الحرب مكلف وغير ممكن ولا هو قادر على تدمير البرنامج النووي الإيراني، في حين أن العقوبات، بعد مرور أكثر من عقد على فرضها، لم تمنع إيران من مواصلة تطوير برنامجها وامتلاك القدرة على انتاج الطاقة النووية.

من هنا يرى الكثير من المحللين أنه رغم نفوذ إسرائيل في الكونغرس، فإن ذلك ليس كافياً لمنع تنفيذ الاتفاق، لأنه حتى لو لم يصادق الكونغرس عليه فإن أوباما سوف يستخدم الفيتو وفي هذه الحالة سوف يحتاج نقد الفيتو إلى موافقة الثلثين في الكونغرس، وهو أمر صعب جداً، وعلى فرض أنه تحقق فإن ذلك لن يمنع سريان الاتفاق على المستوى الدولي بعد أن أقره مجلس الأمن الدولي وبالإجماع، وبات من الصعب على واشنطن تغيير المسار أو الانقلاب عليه. فضلاً عن ذلك، فإن الدول الكبرى التي شاركت في المفاوضات والتوقيع على الاتفاق لن تؤيد العودة إلى مسار فرض عقوبات جديدة على إيران، لانتفاء المبررات وعدم إمكانية الاتفاق على ذلك مجدداً بسبب المعارضة الروسية والصينية.

وفي هذه الحالة فإن الخاسر الوحيد سيكون الشركات الأميركية التي ستحرم من فرص الاستثمار في إيران وستكون الساحة متاحة فقط للشركات الغربية والروسية والصينية.

ومع ذلك فإن نتانياهو الذي يدرك كل ذلك يسعى من وراء الحملة التي يقوم بها إلى تحقيق جملة أهداف هي:

1 - الحصول على ثمن كبير من واشنطن لقاء الصمت والتسليم بالاتفاق، وفي هذا السياق جرى الحديث عن منح إسرائيل عشرة مليارات دولار على مدى السنوات العشر المقبلة إلى جانب الدعم العسكري النوعي بأحدث الأسلحة الأميركية.

2 - تأييد الإدارة الأميركية لسياسات إسرائيل الاستيطانية التهويدية وأجندتها للحل النهائي للصراع العربي الصهيوني، وفي مواجهة المقاومة في لبنان، وهو ما ظهر من خلال إعلان الإدارة وضع بعض كوادر حزب الله على أجندة الإرهاب الأميركية.

3 - توحيد الجبهة الداخلية الإسرائيلية وضم المعارضين، وتحديداً ليبرمان وهرتسوغ، إلى الحكومة لتصبح حكومة اتحاد وطني بما يعزز موقف نتانياهو الداخلي ويؤمن الاستقرار لحكومته ويجنبها مخاطر السقوط وابتزاز الأحزاب الصغيرة مثل حزب كحلون

4 - وأخيرا معاقبة إدارة أوباما والانتقام منها لإصرارها على السير في عكس المصلحة الإسرائيلية.

لكن في مقابل هذه الأهداف التي يسعى إليها نتانياهو هناك وجهة نظر إسرائيلية تحظى بتأييد لا يستهان به تقول بان الدخول في معركة مع إدارة أوباما في الكونغرس بشأن الاتفاق سوف تكون له عواقب وخيمة على إسرائيل أبرزها:

1 - في حالة فشل رهان نتانياهو، فإنه سوف يخسر جائزة الترضية التي تعرضها أميركا لمساعدة إسرائيل مقابل أن تلوذ بالصمت وتتوقف عن القيام بالمشاغبة والتحريض ضد الاتفاق، أما في حال نجاح نتانياهو في كسب تأييد ثلثي أعضاء الكونغرس ضد الاتفاق فإن ما سيحصل عملياً هو انفراط عقد الائتلاف الدولي، لكن بعد أن حصلت إيران على ما أرادته من رفع للعقوبات الدولية وبات من المستحيل إعادة فرض عقوبات مجدداً من قبل مجلس الأمن.

2 - ستواجه إسرائيل خطر عزلة دولية ومواجهة مصير كمصير نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، ويعبر عن هذا الخوف الكثير من الإسرائيليين القلقين من طريقة تعاطي نتانياهو مع الإدارة الأميركية التي تبدو أكثر خوفاً على إسرائيل حتى من نفسها. وتحاول الإدارة إنقاذ إسرائيل من مخاطر تهورها، وعدم قراءتها للمتغيرات الدولية وحدود القدرة الأميركية، عبر استخدام سياسة العصا والجزرة.

3 - إن العالم، بعد إقرار مجلس الأمن الدولي للاتفاق النووي، ترك أميركا تواجه منفردة قرارها، إما أن تبقى مع القرار الدولي الذي أجمعت عليه الدول الكبرى ومجلس الأمن وتستفيد اقتصادياً، أو تظل وحدها تسير في خيار مواصلة فرض العقوبات على إيران لكن ذلك سوف لا يُضرّ بطهران كثيراً، خصوصاً بعد أن ربحت معركة رفع مجلس الأمن للعقوبات أولاً، ومن ثم يأتي تصويت الكونغرس الأميركي ومجلس الشورى الإيراني على الاتفاق، ومن ثم فان الدول الكبرى الموقعة، وفي مقدمها وروسيا والصين وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، باتت تتنافس في كسب ود إيران لنيل أكبر حصة من الاستثمار الواعد في السوق الإيرانية، لاسيما الدول الغربية التي هي بأمس الحاجة إلى ذلك لمواجهة أزماتها الاقتصادية والمالية الناتجة عن الركود الذي أصاب اقتصادياتها وكذلك تراكم الديون السيادية في العديد من هذه الدول.

هذه النتائج المتوقعة في حال نجاح نتانياهو، بالاتفاق مع الجمهوريين وبعض الديمقراطيين، في تأمين أغلبية الثلثين لرفض المصادقة على الاتفاق النووي، أو في حال الفشل في ذلك، ولهذا فان إدارة نتانياهو تعيش إرباكا حقيقيا إزاء طريقة التعامل مع المستجدات الحاصلة دوليا بعد التوقيع على الاتفاق وإقراره في مجلس الأمن،

وفي هذا السياق لفتت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية إلى أن نتانياهو في حيرة من أمره، فهل الاعتراض والصدام مع الإدارة الأميركية في الكونغرس يمكن أن يحقق شيئاً أم أنه سيزيد العلاقات تدهوراً.

وتلخص معضلة نتانياهو بالقول: إنه متردد في الاختيار بين الاعتراض على الاتفاق دبلوماسياً أو الخروج في حملة صاخبة تدخل إسرائيل من جديد في صلب الصراع السياسي داخل أميركا.

خلاصة القول إن نتانياهو يعاني مأزق خسارته المعركة مع إدارة أوباما التي حزمت أمرها ووقعت الاتفاق النووي، مستندة بذلك إلى مصلحة أميركا التي تحددها المؤسسة الحاكمة فيها ومصالح الكارتيلات الاقتصادية.