تركّزت الأنظار خلال الفترة الماضية في لقاء وصف "بالمعجزة" بين رئيس مكتب الأمن القوميّ السوريّ اللواء علي المملوك ووليّ وليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن سلمان في الرياض بوساطة روسيّة. لقاء من هذا النوع وعلى هذا المستوى، من شأنه أن يستقطب الرؤى لتغوص في تفاصيله وعناوينه، وتحاول البحث عن مكنوناته وانسيابه في عمق الأزمة العاصفة في أرض الشّام، وما يمكن أن ينتج عنه من مبادرات تقود إلى حلّ سياسيّ غير محصور في سوريا بل في منطقة أقطارها ترتجف من هول العاصفة وشدّتها فيما تستكين في عينها.

القراءة الروسيّة لأحوال المنطقة وتأثيرها الواقعيّ على الداخل الروسيّ، جسّدها الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين باتقان تام. لقد ولدت المعجزة من رحمها ونطقت من أفواهها أمام الوفد السوريّ برئاسة وزير الخارجيّة وليد المعلّم، كما أمام وليّ وليّ العهد الذي زار موسكو وسمع كلامًا واضحًا من بوتين، معبّرًا عن ضرورة تأليف تحالف بوجه الإرهاب الداعشيّ قوامه سوريا والسعوديّة وتركيّا والأردن والعراق ومصر، ومعتبرًا بأنّ الجيش السوريّ أحدث تقدّمًا واضحًا في العديد من المناطق، مؤكّدًا بأنّ وجود الرئيس بشّار الأسد على رأس السلطة مفيد وضرورة للجميع في عمليّة مكافحة الإرهاب والحرب عليه، سيّما وأن الإرهاب الداعشيّ قد بات على مقربة من الأراضي السعوديّة، بل أمسى في داخلها.

ما هو أساسيّ في الذهن الروسيّ وعلى الرغم من الخلافات التي عصفت بين روسيا والمملكة خلال الأحداث في سوريا، بأن لا تتلاشى المملكة أمام التمدّد الداعشيّ الخطير في المنطقة، على الرغم من أنها، أي المملكة، عمدت مع الأتراك إلى تأسيس فصيل لها متواجد على الحدود في الشمال السوريّ والجنوب هو جيش الفتح، غير أن القراءة الروسيّة مالت وبدعم أميركيّ لهذا التوجّه بأنّ انعكاس الأحداث السوريّة واليمنيّة على المملكة سيحدث دويًّا عظيمًا وينتهي بذلك عصر التوازن المطلوب لديمومة العالم العربيّ. الروس في الحقيقة يشاؤون إنقاذ المملكة من هذا الانعكاس عينًا وبالتحديد من التمدّد الداعشيّ نحوها. وفي الاعتقاد الروسيّ بأن ارتجاج المملكة وسوريا ومصر ذلك المثلّث في العالم العربيّ سيؤدّي حتمًا إلى تمدّد سهل للقوى التكفيريّة ونتائجه ستكون كارثيّة على كلّ المستويات، ممّا يسهّل، بالتالي، عاصفة إسلاميّة تكفيريّة تمتدّ من الشرق العربيّ نحو الجوار الروسي في جمهوريّات الشيشان وأوزبكستان وكازخستان وفي الوقت عينه نحو الغرب الأوروبي...

الروس مقتنعون بأنّ استعادة الاستقرار في الشرق الأوسط منطلق جوهريّ لاستقرار الأمن الروسيّ والعالمي على السواء. من هنا نما اتفاقهم مع الأميركيين على ضرورة توقيع الاتفاق الدوليّ-الإيرانيّ كحالة جوهريّة وأساسيّة، تساهم في القضاء على تنظيم "داعش" وأخواته بالإزاء مع هذا الحلف المقترح. اللقاء الروسيّ-السعوديّ كان التوطئة لزرع هذا الهدف، واللقاء الروسيّ-السوريّ كان بدوره المنطلق لتسويق الهدف، والتسويق حتمًا يحتاج إلى لقاء "معجزة" بحسب تسمية وليد المعلّم بين السوريين والسعوديين. ساهمت المخابرات الروسيّة بتأمين هذا اللقاء بعد موافقة سوريّة من الرئيس بشار الأسد، فتم اللقاء برعاية روسيّة في الرياض بين اللواء ​علي مملوك​ ووليّ وليّ العهد الأمير ​محمد بن سلمان​.

ما يجدر فهمه في هذه المسألة بأنّ اللقاء بحدّ ذاته وإن لم يفض إلى مجموعة التزامات وتفاهمات واضحة بل ظلّ في حدود العتاب المتبادل والصريح حول الأحداث في سوريا، إلاّ أنّه بحدّ ذاته حدث أساسيّ ستكون له استثماراته وستنعكس أجواؤه على الحسابات السياسيّة داخل هذا الإقليم المتوتّر في سوريا ولبنان والعراق والأردن واليمن ومصر. ذلك أنّ اللقاء ولو في شكله الواضح عنى في معظم الدوائر السياسيّة اعترافًا سعوديًّا بحلّ سياسيّ سوريّ يعترف بالرئيس بشار الأسد رأسًا للسلطة وفي الوقت عينه يمهّد الطريق لحكومة وحدة وطنيّة تضمّ الجميع. ويأتي ذلك في الحقيقة، بعد حراك سعوديّ شرس من أبطاله وزير الخارجيّة الراحل والسابق سعود الفيصل ورئيس المخابرات السابق بندر بن سلطان فحواه إسقاط الأسد من السلطة، واستعر ذلك الحراك في مواعيد أعطيت لإسقاطه وبخاصّة في شهر رمضان وتمّ تعميم تلك المواعيد على قوى الرابع عشر من آذار في لبنان، والتي بدورها راحت تبشّر بذلك، والأسد على وجه التحديد لم يسقط، بل بقي، وسيدرك الجميع بحسب مصدر سياسيّ، بأنّ الأوراق قد اختلطت وليس من حلول جذريّة في المنطقة إلاّ مع الأسد على رأس السلطة لمدّة ستّ سنوات قادمة، وما استعادة الحسكة وقرى في حلب وصولاً إلى الزبداني ومحيطها التي حررت بصورة شبه كاملة سوى تأكيد على ذلك. وتؤكّد تلك الوقائع انتصار الدبلوماسيّة الروسيّة ونجاحها في جمع الأضداد ورسم الحلول في منطقة مأزومة وتائقة لتسوية تؤمّن لها السلام.

الطامة الحقيقيّة الظاهرة هي ذلك العداء الإيرانيّ-السعوديّ وهو مصدر الذروة في اشتداد الحرب، كما هو في حقيقته عقائديّ ومذهبيّ. لم يبد السعوديون كما الإسرائيليون سرورًا بالاتفاق الدوليّ-الإيرانيّ على الإطلاق بل سعوا ويسعون لإسقاطه في كلّ الجبهات والمواقع في سوريا ولبنان واليمن. إن جيش الفتح في شمال سوريا وفي مواقع أخرى منها يتحرّك بموجب الإرادة السعوديّة في مواجهة الاتفاق... لكنّ المواجهة وبحسب مصادر مواكبة لن تبلغ مرامها، فما كتب قد كتب. وقد تمّ تفويض إيران بصفقة الاتفاق على رعاية الحلول السياسيّة في دول الإقليم الملتهب، وفي نهاية المطاف سيفهم السعوديون وبحسب تلك المصادر بأنّ هامش الحراك سياسيًّا كان أو أمنيًّا محدود مع تغيير قواعد اللعبة على الأرض، والنتائج ستظهر تباعًا على مستوى الميدان.

الحلف الذي دعا بوتين إلى تأسيسه أفصح كلام قيل متمّمًا بحروفه وتكوّنه وتشعّبه ومعاييره الاتفاق الأميركيّ الإيرانيّ، بل الدوليّ-الإيرانيّ. هل سينجح المسعى الروسيّ مع مصر وسوريا وتركيّا؟ هناك حاجة للنجاح عند كلّ الأطراف للقضاء على تنظيم "داعش". وباب القضاء مفتوح من زاويتين: زاوية الاتفاق، وزاوية الحلف. وفي تلاقي الزاويتين سواءً المباشر وغير المباشر، ستنبلج قراءة تأسيسيّة للمنطقة تعيد الاعتبار لمفهوم التوازن في مشرق فقده في حرب عبثيّة أدرك معظم الناس بأنّها باتت خطرًا على الأمن العالميّ.