- لم يعد مهماً ما إذا كان اللقاء بين مسؤولين سوريين ومسؤولين سعوديين ومشاركة مسؤولين روس قد تمّ وفقاً للروايات المتداولة أم في صيغ أخرى، إلا أنّ ما يمكن استنتاجه هو أنّ ثمة لقاء، وربما أكثر من لقاء، قد نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بترتيبها بين القيادتين السورية والسعودية، فتكرار نشر الخبر ولو بفروقات في تفاصيل المعلومات ولكن بما يؤكد أنّ هناك مشتركاً أساسياً في الروايات المتداولة كلها، وهو أنّ هناك لقاء ثلاثياً قد حصل، وأنه كان بمشاركة اثنين، اللواء علي المملوك رئيس مجلس الأمن الوطني في سورية، والأمير محمد بن سلمان وزير الدفاع وولي ولي العهد السعودي، وأنّ اللقاء قد افتتح مساراً حوارياً بين الحكومتين على قاعدة الإقرار المتبادل بالحاجة إلى هذا التواصل، وأنّ اللقاء قد شهد تحديداً لمفهوم الأمن القومي بالعداء لإيران من الجانب السعودي والسعي إلى جعل، إن لم نقل اشتراط، أيّ تحسّن العلاقات السعودية السورية مرتبطاً بالابتعاد السوري عن إيران وحزب الله، بينما شهد اللقاء من الجانب السوري، تأكيداً على مفهوم للأمن القومي ينطلق من العداء لـ«إسرائيل» والحرب على الإرهاب وربط النظر إلى إيران وحزب الله بموقعهما من هذا المفهوم، وربط التقدّم في العلاقة السورية السعودية بدرجة التقارب على هذا المفهوم.

- الروايات نشرت ويتواصل نشرها في صحف لبنانية وعربية مرموقة، وتحدثت عن أسماء من القيادتين السورية والسعودية، وعن مواعيد وأماكن ومواضيع، والروايات تؤشر إلى مسار معاكس لمسار خمس سنوات بين البلدين، ما يعني أنه كان يستحق لو لم يكن الأساس صحيحاً ما هو أكثر من نفي روسي خجول محصور بنفي عقد اللقاء الأول في موسكو، من دون أن تعتبر دمشق والرياض أن الرواية محرجة لكونها ترويجاً وتسويقاً لتبريد مناخات التصادم والعداء، بالتالي يجب نفيها بقوة من المصدرين السوري والسعودي أو أحدهما على الأقلّ، إذا كانت كذبة مزوّرة وملفقة، وإعادة التأكيد على الموقف التقليدي لكلّ من الطرفين القائم على نقد مواقف الطرف الآخر بقسوة وبلغة تقول فيها الرياض إنّ الحكم في سورية هو في موقع العدو، وإنّ إسقاطه هو الهدف الرئيسي للحكومة السعودية في سياق الحرب على إيران ونفوذها ودفاعاً عما تسمّيه «ثورة الشعب السوري»، ومن الجانب السوري التأكيد على أنّ الحكم السعودي لا يزال في نظر دمشق العدو المصدّر للإرهاب والمسؤول عن خراب سورية والمنطقة، هذا ما لم يحدث في سياق واضح لنفي الروايات المنشورة عن اللقاء أو اللقاءات، ولو أنّ إعلام الطرفين لا يزال يتابع الحرب في سورية بلغته السابقة، لكن بغياب بيانات حكومية تؤكد على النظرة العدائية المتبادلة بين الطرفين.

- في تقييم موقف الطرفين لا يتوه عاقل في تبيان أنّ الأمر بالنسبة إلى الحكومة السعودية هو تحوّل خطير ونوعي في موقعها من صراعات المنطقة، وهو إنْ لم يكن هزيمة واعترافاً بالهزيمة فعلى الأقلّ مراجعة شاملة لخطاب وخيار وموقف ورؤية ورهان ارتبط مصير مكانة السعودية بها كلها خلال السنوات الماضية بعدما وصل الخطاب السعودي الرسمي إلى ربط الاستقرار في العالم العربي برحيل النظام في سورية وتنحّي الرئيس بشار الأسد أو إسقاطه بالقوة، سواء كانت قوة الغزو العسكري الذي سعت الحكومة السعودية إليه وبكت وندبت حظها يوم رحلت أساطيل هذا الغزو، ووصلت حدّ الحرد من الحكومة الأميركية لهذا السبب، أو قوة الإرهاب المتفرّع من تنظيم «القاعدة» و«الإخوان المسلمين» اللذين حظيا بكلّ دعم سياسي ومالي وإعلامي وتسليحي ومخابراتي من حكام المملكة على أعلى مستوى. ولذلك كله فالانخراط في حوار مع ممثل للرئيس الأسد مهما كانت التعقيدات والاشتراطات التي يتضمّنها، هو أقرب ليكون بداية النزول عن الشجرة، لأنّ الأصل لم يكن يوماً البحث عن التطابق السوري السعودي في السياسات، بل كيفية إدارة الخلاف، والانتقال السعودي من خيار إدارة الخلاف بالحرب إلى الحوار هو تغيير إقليمي كبير وهو القرار الذي يترجمه اللقاء.

- بالنسبة إلى سورية الأمر سهل وبسيط، فالحكومة السورية بتوجيه من الرئيس الأسد، لم تتورّط بأيّ موقف أو عمل عدائي تجاه النظام السعودي، ولم تتخط في الخطاب الرسمي الدعوة المستمرّة لحكام المملكة إلى التراجع عن التورّط في دماء السوريين والرهان على سقوط سورية والتحذير من أنّ الإرهاب الذي يصدّره حكام الرياض لتدمير سورية سيرتدّ يوماً ما عليهم، وربما بعد فوات الأوان، كما أنّ سورية كانت دائماً تدعو السعودية للتوقف عن تمويل وتسليح ومساندة الإرهاب كمدخل للتعاون في إطار حلف إقليمي دولي لمحاربة الإرهاب، خصوصاً بعد المبادرة التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتجاوبت معها سورية علناً، والتي تبدو أنها تحقق نجاحها الأهمّ بعقد هذا اللقاء، لأنّ ما عداه يصبح أقلّ تبعات وإحراجاً للسعودية.

- في عناوين الخلاف الواردة على رغم ما تظهره شكلاً وكأنّ الطرف السعودي يضع شروطاً مستحيلة لتطبيع العلاقات مع سورية فإنّ جوهرها يقول إنّ السعودية تعود إلى موقعها قبل الحرب على سورية، بل وقبل أكثر من خمسة وثلاثين عاماً غداة انتصار الثورة في إيران، التي ناصرتها سورية وتعاونت معها لدعم المقاومة في لبنان بوجه الاحتلال «الإسرائيلي»، بينما ناصبتها السعودية العداء وصولاً إلى دعم الحرب التي شنها عليها لنحو عشر سنوات النظام العراقي السابق، كما تقول السعودية عبر ما ورد على لسان أميرها، ضمناً إنها اختارت العناوين التي لا تمسّ بنية الدولة السورية ومكانة رئيسها، وهي تحتاج إلى تبرير الخلاف الذي وصل حرباً مفتوحة ويحتاج قضية كبرى تصير هي موضوع الحوار بدلاً من الحرب، فالتفاوض السوري السعودي لا يجري حول ماهية التغييرات الواجب إجراؤها في بنية الدولة في سورية، وهذا لو كان عنوان الطرح السعودي لكان الاستنتاج الوحيد هو أنّ الحرب مستمرة وأنّ التلبية السعودية لطلب اللقاء الذي عرضه الرئيس بوتين لا يتخطى رفع العتب، أما الابتعاد عن هذا المساس والتدخل في شؤون سورية الداخلية فهو تسليم بفشل حرب إسقاط النظام والرئيس، وارتضاء العودة إلى عناوين الخلاف التي حكمت علاقة الدولتين قرابة الأربعة عقود وتمكنتا من إدارتها من دون أن تستبيح إحداهما دماء مواطني وجنود الدولة الأخرى، وبالتالي من دون أن تربط الاستقرار بالانتصار في الحرب الهادفة لإسقاط نظام الحكم فيها.

- الطبيعي أن تقول السعودية ما قالت وفقاً للروايات المتداولة وأن تردّ سورية بما ردّت، والطبيعي أيضاً أن يكون اللقاء الثاني قد شهد إذا كان قد عُقد أو أن يشهد عندما يُعقد، مواصلة للنقاش في النظرتين المتباعدتين لمفهوم الأمن القومي، وتحميل كلّ طرف للآخر مسؤولية إضعاف فرص التعاون، ومن خلال ذلك إضعاف الموقف العربي العام، لكن في لقاء تمّ أو سيتمّ، سيصل الفريقان إلى سؤال وماذا بعد؟ وسيجدان بسرعة أنّ الجواب هو الجواب التقليدي لمثل هذه الحالات المشابهة، أو سيتدخل الشريك الروسي في اللقاءات، إنْ لم يكن قد تدخل ليقول، فلنضع آلية حوار حول قضايا الخلاف وكيفية إدارتها، فخلافات مستحكمة في قضايا مفصلية لا يمكن توقع زوالها في لقاء أو اثنين، ولنضع في المقابل العناوين المشتركة التي يمكن تحويلها إلى جدول أعمال لعمل مشترك يحقق مصلحة الفريقين، ومن السهل هنا توقع التفاهم على عنوانين، هما الإدارة السلمية للخلاف من دون التورّط في أعمال عدائية، والبحث في سبل التعاون في الحرب على الإرهاب.

- في العنوانين سيكون الأمر أسهل بالنسبة إلى سورية منه بالنسبة إلى السعودية، فلدى سورية خطاب جاهز من الذاكرة حول مراحل إدارة خلاف تاريخي بين القيادتين محور تقييم مكانة إيران من الأمن القومي ومثله العلاقة بأميركا والصراع مع «إسرائيل»، وقد شهدت الأعوام بين 1980 و1988 تورّطاً سعودياً شبيهاً في الرهان على نزيف سورية، وكان عنوانها يومها حرب «الإخوان المسلمين»، الذين تمركزوا في الأردن في معسكرات تموّلها وتسلحها وتديرها السعودية، وانتصرت سورية عليهم، بصورة تشابه ما يحصل اليوم، وتمّ التوصل إلى صياغة تفاهم قضى بالتعاون السوري السعودي سرعان ما أنتج اتفاق الطائف في لبنان، وتسليماً سعودياً بالتوقف عن العبث بأمن سورية وارتضاء ربط النزاع وإدارة الحوار مع سورية، والتسليم بقاعدة أنّ الانفتاح على سورية ينتج وحده توازناً إيجابياً مع إيران وحزب الله، وينقل الصراع السعودي معهما من المواجهة والخوف والقلق إلى الحوار. وفي عنوان الحرب على الإرهاب يكفي سورية ما يقوله العالم كله، خصوصاً ما سبق وقاله نائب الرئيس الأميركي جو بايدن عن دور المملكة وحكومات الخليج في دعم الإرهاب والرهان على إسقاط سورية بواسطته لتطلب بوضوح ترجمة قطع الصلات بكلّ أشكال وتنويعات الإرهاب كعلامة على نية ترجمة المعلن من المواقف السعودية بِاستشعار خطر هذا الإرهاب على الأمن السعودي الداخلي.

- سيكون لسورية الشعور بالمصداقية مع نفسها ومع حلفائها وهي تنظر إلى الانخراط السعودي في هذه اللقاءات كإعادة تموضع في ضوء المتغيّرات التي يتصدّرها التفاهم على الملف النووي الإيراني والانتصارات التي تحققها سورية على الإرهاب بدعم من إيران وروسيا والمقاومة التي يمثلها حزب الله، وأن يساندها حلفاؤها في إيران وحزب الله بمواصلة هذه اللقاءات أملاً بترجمة الموقف السعودي عملياً، وهذه البداية كما كانت مع اتفاق العام 1988 ستعني مرة أخرى نتيجة مشابهة، التقدّم خطوة نحو لعب سورية دوراً في الحوار السعودي الإيراني انطلاقاً من تعاون يبدأ بحلّ في لبنان تقوده سورية ويكون حزب الله هذه المرة الشريك الرئيسي فيه.

- يمكن لمن يرغب بالمزيد من التحليل أن يتوقّع أن الجانب السعودي هو من قام بتسريب خبر اللقاء وروايته، وضمان وصولها ونشرها في صحف تصنّف صديقة لسورية، للتمهيد أمام جعل لقاءات مقبلة علنية، طالما أنّ الإحراج الأكبر هو للطرف السعودي، وأنّ التكتم السوري هو مراعاة للجانب السعودي، بالتالي لا مصلحة لسورية بتسريب يعتبره السعوديون والروس تسرّعاً وتهوّراً يؤذي الحوار إذا كانت السعودية ترغب بالتكتم، وليست الدولة السورية من هذا النوع من الأطراف في تاريخ سلوكها المليء بالقدرة الديبلوماسية على إدارة دقيقة ومحافظة على سرية الملفات، ولو أرادت سورية التسريب كان يفترض أن نشهد النشر في أكثر من صحيفة أوروبية تملك سورية علاقات واسعة مع العاملين فيها ويتشوّق صحافيوها لتخصيصهم برواية مثيرة كهذه وسبق مهنيّ كهذا.