لا حاجة للأدلة حول حجم الكراهية والحقد اللذين يختزنهما قادة الحكم السعودي ضدّ الرئيس بشار الأسد، ولا حاجة لدليل على أنّ السعودية لم تذهب إلى الحرب على سورية منقادة لقرار أميركي، بل كانت أحد صناع هذا القرار بتحريض مستمرّ منذ العام 2003، وبتعاون مع اللوبيات «الإسرائيلية» وتمويل لأنشطتها الضاغطة منذ ما بعد حرب تموز 2006 التي لم ينس «الإسرائيليون» أن الصواريخ التي تساقطت عليهم خلالها كانت في أغلبها صناعة سورية، وكانت الحرب أقرب إلى مناورة بالذخيرة الحية تجريها فرقة النخبة التي ستخوض مع الجيش السوري حربه المقبلة ضدّ «إسرائيل»، كما هو الوصف الذي أطلقه الرئيس الأسد على قتال وحدات حزب الله إلى جانب الجيش السوري ضدّ الإرهاب. والأدلّ على درجة عمق العداء السعودي لسورية ورئيسها أنّ الملك العاقل كما كان يُسمّى والأشد قرباً لسورية كما كان يُقال، الراحل عبدالله بن عبد العزيز عبّر عن ذلك في موقفين مشهودين، روت تفاصيل الأول مجلة «التايم» في آب 2003 عندما التقى الملك عبدالله بالرئيس الأميركي السابق جورج بوش في تكساس بحضور الأمير بندر بن سلطان ونقلت «التايم» عن اللقاء طلباً سعودياً علنياً بالتعاون لإسقاط نظام حكم الرئيس بشار الأسد والسعي إلى بديل تابع للسعودية لتعويض خسارة السعودية للعراق كحليف في وجه إيران، والثاني ما نقلته شخصية عربية مرموقة بادرت عام 2007 إلى مسعى ينتهي بتطبيع العلاقات السورية السعودية، والتقت الملك عبدالله لجسّ النبض، وفوجئت باللغة الحاقدة التي سمعتها وعادت بانطباع أنّ المواجهة السعودية السورية حتمية بمعزل عن تصرّف سورية، وعما يمكن أن يظهر من تسويات موقتة، لأنّ ثمة قراراً عميقاً في السعودية بالعداء لسورية ورئيسها يتحيّن الفرصة للتحوّل إلى حرب معلنة.

جاء الفشل الأميركي في الحروب بتقرير بيكر ـ هاملتون عندما تغلب العقل في واشنطن على غريزة القوة، وعلى السماع للنصائح والعروض «الإسرائيلية» والسعودية والتركية، لكن سرعان ما انتصر الغباء على الذكاء فوضعت توصيات العقلاء في خزائن الانتظار، لأنها كانت تدعو إلى تفاهم نووي مع إيران كانت شروطه أفضل من التفاهم الحالي عندما لم تكن إيران قد بلغت حدّ التخصيب المرتفع الذي يصلح للبرامج العسكرية. ودعت التوصيات إلى الاعتراف بإيران دولة إقليمية عظمى، ولم تكن إيران بعد قد تجذّرت في اليمن كما هي الحال اليوم وقوي ساعد حلفائها إلى هذه الدرجة ولا لها على سورية دين الصمود والدعم السياسي والمالي كما هي الحال بعد الحرب العالمية التي وضعت لها إمكانيات دول الغرب والخليج كلها لإسقاط سورية. وتدعو التوصيات للتعامل مع سورية كدولة إقليمية فاعلة في لبنان والأردن والعراق وبيدها مفتاح الصراع مع «إسرائيل». وكانت سورية لا تزال منفتحة على الخيارات التفاوضية لحلّ الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» وفقاً للقرارات الدولية، ولم تنخرط إلى الحدّ الذي بلغته اليوم ضمن خيار المقاومة، وسيطر الجنون الأميركي على العقل ونجح الثلاثي التركي السعودي «الإسرائيلي» في جرّ أميركا إلى مواجهة عنوانها إسقاط سورية أو تدميرها واستنزافها حتى تستسلم، وربط مصير التفاوض النووي مع إيران بنتائج هذه الحرب على سورية، وفقاً لنظرية قوامها أن إيران إذا خسرت سورية فوزنها الإقليمي سيصير أقلّ بكثير وموقعها المهدّد وجودياً لـ«إسرائيل» سيفقد قيمته، وإذا لم تسقط سورية فسيصير ممكناً إخضاع إيران لشروط أفضل في الملف النووي وفي التفاهم على مستقبل الحكم في سورية كي تحتفظ ببعض نفوذ يوصلها إلى البحر المتوسط ويؤمّن تواصلها مع حزب الله في لبنان.

خاضت واشنطن غمار النصائح الغبية، وبعد سنتين من الرهانات والأوهام كانت تعود بأساطيلها من البحر المتوسط بالتفاهم على حلّ للسلاح الكيماوي السوري وتستأنف المفاوضات المجمّدة حول الملف النووي الإيراني وقد بلغت إيران التخصيب المرتفع وبدأت بتخزين كميات مقلقة منه، كما قالت التقارير الأميركية. وخلال عامين تمّ التوصل إلى التفاهم النووي، بعدما كان الحلّ الكيماوي مع سورية علامة فاصلة على سقوط خيار الحرب من جهة، والعودة إلى الخيار التفاوضي من جهة أخرى. لكن خلال عامين كانت الوصفة الأشدّ غباء قد بدأت تفعل فعلها في سورية والعراق، وهي من ذات المصدر السعودي التركي «الإسرائيلي»، وقضت بتسليم تنظيم «القاعدة» دفة الحرب على سورية، وبلغت نتائج هذا الخيار ما بدأ يؤشر إلى وجود قرابة خمسين ألفاً من مواطني أوروبا وأميركا يتدرّبون ويتنظمون ويستعدّون للعودة إلى بلادهم كساحات عمل للإرهاب، وما يعادل نصفهم من السعودية يستعدّون لغزوة مكة، وصارت توصيات بيكر ـ هاملتون التي يشكل التوقيع على التفاهم النووي أول تنفيذ لها، الوصفة الوحيدة على الطاولة، وتنتظر الطريق السالك للحلقة الثانية وهي سورية.

نتج من الحرب ضعف في مكانة أميركا بوجه خصميها التقليديين روسيا والصين، ونتج من الحرب واستطراداً عن التفاهم النووي صعود في مكانة إيران، ونتج من تجذر الإرهاب تزايد في الحاجة إلى التفاهم مع سورية وإيران وحلفائهما، لكن واشنطن لن تذهب لكلّ ذلك من دون حلفائها على رغم أنهم ورّطوها بالحرب وبوصفاتهم الغبية، لأنّ ذلك يعني الاستسلام، فهي تضع توقيتها للسير بالخطوات اللاحقة على ساعة نضج الحلفاء للتأقلم مع المتغيّرات وتقبّل السياسيات التي صار لا بدّ منها، وفي مقدّم الحلفاء السعودية، لأنّ «إسرائيل» فقدت كثيراً من بريق حضورها الأميركي من جهة وهي منشغلة بذاتها من جهة ثانية، وليست طرفاً مرجعياً يملك البدائل في الأوضاع العربية الداخلية من جهة ثالثة، وتركيا المصاب رئيسها بجنون العظمة والفاشل في الانتخابات والعالق بين فكي كماشة «داعش» وحزب العمال الكردستاني يحلم بمناطق حظر جوي، وتغيّر في الموقف الروسي من الرئيس الأسد، لتبقى السعودية التي تشكل العنوانين المالي والنفطي اللذين لا غنى عنهما لأيّ إدارة أميركية، والشريك الخليجي المفترض لإيران، والسعودية متورّطة في حربها الفاشلة في اليمن، وفقدت أوراقها في سورية، وتدرك أنّ التفاهم النووي لم يبق المزيد من الوقت للتأقلم، فلا بدّ من خطوة تساعد السعودية على النزول عن الشجرة، لتنفتح طرق الشام أمام الأميركيين.

ينضج اللقاء بين وزير خارجية أميركا ووزير خارجية سورية، عندما يتمّ أول لقاء سوري سعودي، هذا ما قاله لي صديق عتيق وهو ديبلوماسي روسي سابق عمل في عدد من عواصم المنطقة. ولذلك قال الصديق مستنتجاً، لقد مهّد جون كيري الطريق للقاء الوزير وليد المعلم على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في الخريف المقبل، بتسهيل اللقاء الذي جمع بين شخصيتين محوريتين من الصف الأول في كلّ من سورية والسعودية. فرئيس مجلس الأمن الوطني في سورية هو المشرف السياسي على عمل أجهزة الاستخبارات، وولي ولي العهد السعودي ووزير الدفاع هو الناطق بلسان أبيه ملك السعودية، وخير خدمة قدّمتها موسكو لواشنطن كانت ترتيب هذا اللقاء، الذي يؤكد الصديق أنه سياسي بامتياز وتعبير عن مسار متواصل، واللقاء ليس يتيماً وليس أمنياً، ويكتفي بالقول بعد لقاء كيري المعلم تولد ملامح «الشرق الأوسط الجديد».