حُكم القناصل، مَن لا يتذكَّر تلك المرحلة التي كانت طاغية في القرن التاسع عشر واستمرت في القرن العشرين، لكن المفاجأة أنها ما زالت مستمرة في القرن الحادي والعشرين ولو بأسلوب النُصح والعلاقات العامة وتحوُّل بعض السفراء إلى معلِّقين في الصحف وكُتَّاب إفتتاحيات، وكلُّ ذلك من أجل إستعادة أمجاد حكم القناصل ولو بأسلوبٍ مختلف.

***

الأكثر نشاطاً في هذا المضمار السفير البريطاني في لبنان طوم فليتشر، الذي يستعد لمغادرة لبنان بعدما أمضى فيه أربعة أعوام وحلّ ضيفاً مكرّماً على معظم بيوت السياسيين الناشطين، وهو يغادره إلى أبو ظبي حيث سيمارس التعليم لمدة سنتين، على أن يعود إلى لندن ليتسلَّم منصباً رفيعاً في الخارجية البريطانية.

الحُكم الدبلوماسي الذي يمارسه يأتي بصيغة النُصح حيث يقول للبنانيين إنَّ عليهم بأنفسهم إنتخاب رئيسٍ للجمهورية وعدم إنتظار الإستحقاقات الإقليمية الواحد تلو الآخر. يقول السفير فليتشر هذا الكلام وهو العارف ببواطن التدخلات الخارجية التي تعيق عملية الإنتخابات، لكنه لا يريد أن يسميَّ المعرقلين لأنَّ حدوده الدبلوماسية تعيق ذلك.

***

ينتقل طوم فليتشر إلى نصيحة ثانية أكثر قساوةً، يقول للبنانيين:

كفّوا عن الإصغاء إلى الخارج، القادة اللبنانيون دائماً يطلبون رأيَنا، وقد انجَرَّينا إلى هذه الدائرة، بحيث بتنا مدمِنين على تقديم آرائنا، فات هذا السفير الدبلوماسي جداً إنَّ إدمان تقديم الآراء والنصائح هو علمٌ يُعطى للدبلوماسي قبل تسلُّمه مهامه، وتقديم النصح ليس ردة فعل بل بمبادرة منهم، فلماذا تمنين اللبنانيين بها؟

***

ومن النصح ينتقل إلى التهويل حيث يقول:

على الناس أن يدركوا أنّ الإستقرار في لبنان لا يمكن اعتباره من المسَلّمات، الأوضاع هشّة جداً. هناك جماعات تريد تقسيمَ البلد لمصالحها الخاصة، مقابل فئة من الناس يتمسّكون بالتعايش ويحاولون إسكاتَ هذه المحاولات بمتابعة أعمالهم وتعليم أطفالهم.

عظيم، إذا كان الوضع هشاً، وإذا كان هناك مَن يريدون التقسيم فلماذا لا يكشفهم هذا الدبلوماسي العريق ليساعد لبنان على مواجهتهم؟

لماذا يكتفي بالتخويف والتهويل؟

***

بما يشبه السخرية، يقول فليتشر إنَّه منذ 9 أشهر عندما كنّا نحضّ السياسيين اللبنانيين على إنتخاب رئيس، كانت حجّتهم لننتظر الإتّفاق النووي. اليوم تمّ الإتفاق ولا تقدُّم على صعيد إنتخاب رئيس، هذا عذرٌ خارجيّ لعدم القيام بواجبهم، وتارةً يتحجّجون بالأزمة السورية، عليهم التحرّك وإنهاء الفراغ للحفاظ على مصلحة اللبنانيين.

سعادة السفير المحترم هذا ليس عذراً من السياسيين هذا عذرٌ لتغطية عجزكم عن الضغط على القوى الخارجية التي تعرقل الإنتخابات، وأنتم تعرفونها.

***

لكن ليس بالضرورة أنَّ كل ما يقوله أيُّ سفير، يُفترض أن يكون صحيحاً ويُعوَّل عليه.

السفير فليتشر نفسه، ومنذ ثلاثة أعوام، وكان له سنة في لبنان، كتب مقالاً في إحدى الصحف، إذا تمت العودة إليه اليوم، يظهر أنَّه لم يُصِب في قراءته للأحداث والتطورات آنذاك، وكتب يقول ستشهد السنوات المقبلة إنجازات وإنتكاسات. في ليبيا حكومة جديدة بعد أربعين عاماً من حكم الرجل الواحد، وسنعمل مع هذه الحكومات الجديدة والشرعية والقابلة للمساءلة.

أين ليبيا اليوم مما بشَّرنا به سعادة السفير طوم فليتشر منذ ثلاثة أعوام؟

إذا كانت هذه هي قراءته الصائبة فهل قراءته عن لبنان هي كقراءته عن ليبيا؟