يبدو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذه الأيام كرجل أعمال اشترى أسهماً في البورصة بثمن مرتفع مراهناً على أرباح سريعة ومضاعفة، فإذا به يفاجأ بأن أسهمه «مضروبة» تتراجع أسعارها يوماً بعد يوم حتى وصلت إلى الحضيض، فلا هو راغب في بيعها كي لا يودي بفرصة ارتفاعها ذات يوم، ولا هو قادر على إطلاق أعمال جديدة تعوضه خسارته. بالانتظار تراه ينفق من رأسماله التأسيسي تحت طائلة العجز والإفلاس المحتمل.

لا مبالغة في هذا التشبيه، فالرئيس التركي باع شعبه شعار«صفر مشكلات» على حدود تركيا، وراهن على الاندماج في الاتحاد الأوروبي ووعد الأتراك بمجد شبيه بمجد العثمانيين بعد مضي ما يناهز القرن على غياب الإمبراطورية العثمانية، بل أعد العدة لمثل هذا الحدث عندما بنى «القصر الأبيض» تيمناً بالبيت الأبيض الأمريكي الذي يضم ألف غرفة وقاعات «همايونية».

لم تكن رهانات أردوغان مجردة من اعتبارات جديّة، فقد تمكن من جمع «الإخوان المسلمين» العرب حوله، وأطلق خطاباً بنبرة عالية ضد «إسرائيل»، واستقبل في بلاده تظاهرات فلسطينية مؤيدة للمقاومة، وخلال الربيع العربي بدا أن الرئيس التركي مرشح لاستعادة القاهرة إلى النفوذ العثماني، وليبيا وتونس واليمن، وستكون سوريا جائزته الكبرى، ذلك أن سقوط النظام وتسلم «الإخوان المسلمين» الحكم من شأنه أن يجعله سيداً على العمق السوري العراقي المتصل بالحدود التركية، مروراً بالأردن، وصولاً إلى القاهرة، وبالتالي الرجل الأقوى نفوذاً في الشرق الأوسط، بل ثمة من يرى أنه كان قاب قوسين من تحقيق حلمه، عندما احتشدت القوات الأمريكية لضرب النظام السوري، قبل أن يفاجئ الروس الأمريكيين بالتعهد بتسليم الأسلحة السورية الكيميائية لقاء الامتناع عن إسقاط حكومة دمشق، وهو اتفاق غير معلن لكن أوباما احترمه بهذا القدر أو ذاك.

منذ ذلك الحين، أي ربيع عام 2013، بدأت أسهم الرئيس التركي بالتراجع، وقد لا يكون غريباً أن يباشر الطرفان الأمريكي والإيراني البحث جدياً عن حل للنووي الإيراني حينذاك، الأمر الذي سيتحقق هذا العام، وبالتالي سيجعل طهران طرفاً أساسياً في معظم نزاعات المنطقة، ومحاوراً مهماً للغرب في الشرق الأوسط.

تساقطت أوراق أردوغان تباعاً، فقد خسر القاهرة بعد انهيار مرسي وصعود السيسي وملاحقة الإخوان المسلمين، وخسر ليبيا بعد تشكيل محور قتالي جدّي حول الجنرال خليفة حفتر لعزل "الإخوان المسلمين"، وبادر «داعش» في سوريا إلى تهميش الإخوان السوريين، وتراجعت أسهم حزب "النهضة" في تونس الذي خسر الانتخابات الرئاسية ووافق على دستور ليبرالي وعلى الشراكة في الحكم من موقع أضعف من ذي قبل، ليسقط «الربيع العربي» الذي كان سيتوج أردوغان ملكاً على الشرق الأوسط في لعبة الإرهاب الخطرة التي لا يستطيع الرئيس التركي التواطؤ طويلاً معها.

في سياق رهانه على «الربيع العربي» اخترع الرئيس التركي حلاً سلمياً لمشكلة الأكراد لقاء نزع سلاحهم وتخليهم عن الإرهاب، معتبراً أن نفوذه الشرق أوسطي القادم من شأنه أن يستوعب من موقع القوة حكماً ذاتياً إدارياً لأكراد سوريا، وتسهيلات كبيرة لأكراد العراق، فضلاً عن التسامح مع اكتساب أكراد تركيا حريات أكبر ومكاسب أكبر لقاء انخراطهم في اللعبة الانتخابية، والامتناع عن دعم الأعمال الإرهابية الكردية، وهو ما حصل بالفعل.

بعد انهيار "الإخوان المسلمين" كان على أردوغان أن يكتفي بالتحالف مع قطر، وألا يدخل في مواجهة مع مصر ودول الخليج، فضلاً عن سوريا وأصدقائها العرب. في هذا الوقت، أي في منتصف العام الماضي، تسامح أردوغان، بل ساعد «داعش» علّه يتمكن من إسقاط العراق وسوريا، وبالتالي إتاحة فرصة تاريخية أمام تركيا كي تستعيد بواسطة «داعش» ما خسرته بواسطة "الإخوان المسلمين" فإذا ب«داعش» يهدد دول الجوار كلها، وليس سوريا فحسب، ويهدد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بطريقة تفوق خطر «القاعدة» بما لا يقاس، الأمر الذي حمل الرئيس الأمريكي باراك أوباما على الطلب من أردوغان بعبارات حاسمة قائلاً: لقد انتهت اللعبة، ولا بد لتركيا أن تكون لاعباً على قدم المساواة مع الآخرين في الحرب ضد الإرهاب.

ما من شك في أن استئناف الحرب التركية ضد الأكراد، معطوفاً على الابتعاد عن «داعش»، فضلاً عن استخدام البنية العسكرية التحتية ضد هذه الجماعة، ينطوي على تكلفة اقتصادية عالية، وعلى خطر استنزاف المكاسب التي حققها حزب العدالة والتنمية منذ تسلمه السلطة في مطالع الألفية الثالثة.

الناظر إلى الحدود التركية لا يمكنه إلا أن يرى التوتر، أو العلاقات الباردة مع جيران حزب العدالة والتنمية، سواء لجهة اليونان وقبرص، أو سوريا والعراق، أو أرمينيا التي احتفلت هذا العام بمرور قرن على مذابح الأرمن واعتراف العديد من الدول بهذه المذابح بوصفها جريمة إبادة ضد الإنسانية. تبقى العلاقات مع جورجيا هادئة، لكن هذا البلد صار تحت المطرقة الروسية، وإذا كانت العلاقات التركية الإيرانية جيدة، فإن جودتها رهن بالتطورات السورية والدور التركي في التقارب أو الابتعاد عن «داعش.»

هكذا تعود تركيا في عهد رجب طيب أردوغان إلى المربع الأول، أي إلى مشكلات حدودية شاملة مع أغلب الجيران، فضلاً عن استئناف الحرب مع الأكراد، وربما في القريب العاجل تحمل النتائج السلبية للانخراط اللوجستي على الأقل في الحرب على «داعش».

يفيد ما سبق بأن الرئيس التركي الذي يناور من أجل انتخابات مبكرة يراهن على كسبها وفق معادلة أنا أو الفوضى، أو أنا أو الأكراد، قد فقد هامش المناورة الإقليمي والدولي الذي تمتع به طويلاً قبل الاتفاق النووي الإيراني، وصار عليه أن ينتقل من السياسة الهجومية التي ميزت حكمه إلى سياسة دفاعية ميزت حكم القوميين والعلمانيين الأتراك، وسائر المتضررين الذين يتاهبون لرفع شعارهم المنتظر: وداعاً أردوغان.