هي "نظرية المؤامرة" الرابحة الأكبر في لبنان، مهما كانت الظروف والمعطيات، طالما أنّ مقوّماتها حاضرة وجاهزة دومًا وأبدًا...

المؤامرات موجودة بلا شكّ، وهذا لا يمكن لأحدٍ نكرانه، ولكنّها في المنطقة عمومًا ولبنان خصوصًا، باتت "كلمة السرّ" التي يلجأ إليها الجميع لتبرير كلّ شيء، وهي التي أصبحت تجمع أشدّ المتباعدين، الذين يتفقون على وجودها...

ولعلّ أحداث نهاية الأسبوع المنصرم في لبنان تشكّل دليلاً فاقعًا على ذلك. الجميع اتفقوا على وجود "مؤامرة"، لكنّ كلّ فريقٍ قرأها على "هواه" وبما يخدم "أجندته"، لتغيب القراءة النقدية والتقييمية الحقيقية، على جري العادة...

غباء السلطة؟!

البداية من مقاربة المجتمع المدني لـ"المؤامرة"، والمجتمع المدني هنا قوامه مجموعة "​طلعت ريحتكم​" التي نشأت على خلفية "فضيحة" ​النفايات​ التي تتحمّل الطبقة الحاكمة بجميع فروعها وأقسامها مسؤوليتها، إلى جانب جمعيّاتٍ بيئيةٍ واجتماعيةٍ أخرى، فضلاً عن فنانين ومثقفين.

على غير عادته، استطاع هذا المجتمع المدني فعل شيءٍ. برأي كثيرين، فإنّ الفضل في ذلك يعود أولاً وأخيرًا لـ"غباء السلطة" في التعامل مع حراكه، الأمر الذي أدّى لتوسيع حجمه وزيادة انتشاره. استسهلت هذه "السلطة" استخدام خراطيم المياه لتفريق المحتجّين، وتوقيف بعض الناشطين كلما قاموا بتحرّكٍ ما. وصل الأمر بها إلى حدّ "المقايضة" عليهم، كما لو كانوا "مخطوفين"، عن طريق ممارسة "الابتزاز" على قاعدة: "أنهوا التحرّك ونطلق المخطوفين".

يوم السبت الماضي، وصل هذا الحراك إلى أوجه، بفضل السلطة أيضًا وأيضًا. لم تترك قوات الأمن وسيلة إلا وقمعت المتظاهرين من خلالها. لم يتوانَ البعض عن تشبيه الأمر بـ"ثورات الربيع العربي"، تشبيهٌ ازداد واقعية في اليوم التالي، اليوم الذي كاد يشكّل "نهاية" الحراك، أو أقلّه "سقوطه في فخّ الفوضى". هنا، تبنّى المنظّمون سريعًا "نظرية المؤامرة". وفق روايتهم، فإنّ "مندسّين" دخلوا على الخط، وقد حرصوا على اعتماد هذا المصطلح، رافضين أيّ بحثٍ بغيره، من قبيل "عناصر غير منضبطة" أو "غير منظمة" على سبيل المثال. توازى ذلك مع الاتهام الجاهز عن انتماء هؤلاء العناصر الطائفي والمذهبي.

إنها "المؤامرة" بحدّ ذاتها برأي الحراك المدني. السلطة امتعضت من حراك الشباب، ولم تصدّق أنّ البساط سُحِب من تحت أقدامها، فأرسلت "زعرانها" لتخريب الحراك، وكان ما كان. إنها "المؤامرة"، ونقطة على السطر، ولا مجال للبحث بأيّ أمرٍ آخر، لا بخللٍ تنظيمي هنا، ولا بطبيعة "الثورة" التي يمكن أن تشرّع كلّ أشكال "الفوضى"، خصوصًا أنّ أحداً لا يستطيع أن يفرض أسلوبه وطريقته على الملتحقين به، إلا إذا أراد "احتكار" هذه الثورة.

مؤامراتٌ بالجملة..

ومن الحراك المدني إلى الأحزاب السياسية، تبقى "المؤامرة" حاضرة بكلّ ثقلها، وإن اتخذت مناحي أخرى بالجملة، أولها "الريبة" الموجودة أصلاً لديها من "المجتمع المدني" بحدّ ذاته، وجمعية "طلعت ريحتكم" لا تشذّ عن القاعدة، خصوصًا أنّ بعض "رموزها" ليسوا من الطارئين على المشهد، بل إنّ البعض لا يتردّد في القول أنّ "رائحتهم طلعت" أيضًا.

من هنا، تتفق الأحزاب السياسيّة، في مقلبي "8 و14 آذار" على حدّ سواء على أنّ "المؤامرة قائمة" وعلى أنّ شيئًا ما يُطبَخ خلف الكواليس، وأنّ شيئاً في الشارع ما كان ليحصل لولا "ضوءٍ أخضر" في مكانٍ ما، وتستند هذه الأحزاب لمشاهد "دول الربيع العربي" التي شكّلت "ثوراتها" المعبر الإلزامي لـ"الفوضى الهدامة"، التي استغلتها التنظيمات المتطرفة والإرهابية من "داعش" إلى "جبهة النصرة" وما شابهها لتحويل "أحلام" شعوبها إلى "كوابيس" بكلّ ما للكلمة من معنى.

وبعيدًا عن الاتفاق على خطوط "المؤامرة" العريضة، فإنّ هذه القوى تختلف فيما بينها على التفاصيل، بل تفاصيل التفاصيل، لتصبح لكلّ منها "مؤامرتها الخاصة"، أو بالأحرى "مؤامراتها". هكذا، لم ترتح قوى الرابع عشر من آذار عمومًا، و"تيار المستقبل" خصوصًا، لمسار "الثورة الشعبية"، منذ أن لاحت ملامحها في الأفق، وإن ادّعت أنّ الغالبية العُظمى من المنخرطين فيها "صادقون ومقهورون". ولكن هنا أيضًا، اختلفت هذه القوى في تشخيص "المؤامرة" حدّ التناقض، حيث ظهرت أكثر من وجهة نظر، تقول الأولى أنّ خصومها، أي "حزب الله" وحلفاءه، هم من يقفون وراءها، وذلك لتحقيق "مؤامرتهم" القديمة الجديدة عبر جرّ البلاد إلى فراغ شاملٍ يقود بالضرورة إلى المؤتمر التأسيسي الذي عجزوا عن الوصول إليه بالدبلوماسية والسياسة، وبأسلوب الترغيب قبل الترهيب، فيما تذهب وجهة النظر الثانية لحدّ الحديث عن "مؤامرة" تحاول قلب الحقائق عبر تصوير رئيس الحكومة وكأنّه "ظالم" في حين أنّه "مظلوم"، وتتناسى حقيقة أنّ "الظالم الحقيقي" هو من يعطّل انتخاب رئيسٍ للجمهورية، ويشترط تحقيق مطالب شخصية وعائلية لتفعيل الحكومة، وذلك في إشارة إلى "التيار الوطني الحر" ومن خلفه "حزب الله".

ولا تغيب "المؤامرات" عن قاموس قوى الثامن من آذار، التي تكاد تصبح "المؤامرة الحقيقية" هي جمعهم في خانةٍ واحدةٍ، باعتبار أنّ ما يفرّقهم أكثر بأشواط ممّا يجمعهم. هكذا، تحمّس "العونيّون" على سبيل المثال للحراك المدني، ووصلوا لحدّ اعتبار أنفسهم جزءًا منه، وكأنّه من "المفاجآت" التي وعد بها رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون في وقتٍ سابق، في حين أنّ رئيس المجلس النيابي نبيه بري على سبيل المثال بدا من المقتنعين بـ"نظرية المؤامرة" من وراء هذا الحراك، باعتبار أنّ تطبيق شعاراته لن يقود سوى إلى "المجهول"، كونه لا يطرح بديلاً حقيقياً عن الحكومة التي يطمح لـ"إسقاطها" في ظلّ "الفراغ" في سدّة الرئاسة الأولى.

لكلّ مؤامرته..

انطلاقاً ممّا سبق، فإنّ الخلاصة البديهية تبقى أنّ لكلّ فريقٍ مؤامرته، بل ربما لكلّ مواطنٍ لبنانيٍ مؤامرته الخاصة..

ولكن، وبعيدًا عن نظرية "المؤامرة"، ماذا فعل كلّ فريق لمواجهة المصير الذي قد تذهب البلاد إليه؟ وبدقّة أكثر، ما الذي فعله المجتمع المدني في مواجهة السلطة باستثناء الحديث عن مؤامرة أبطالها "مندسّون"؟ هل عمد لتنظيم نفسه أقلّه عبر رسم قيادة واضحة وشفافة لتطوير حراكه ليشكل النواة الأساس للتغيير، خصوصًا أنّه قد يكون غير مسبوق على المستوى الشبابي؟ وأبعد من ذلك، أيّ بدائل قدّمها هؤلاء للسلطة الحاكمة التي يريدون إسقاطها عن حق؟

وعلى مقلب الأحزاب التي خافت من "صوت الشعب"، فما الذي فعلته لمواجهة الحراك المطلبي، خارج سيمفونية وجوب الحفاظ على الحكومة وخطها الأحمر الداكن الذي لا يجوز المساس به؟ هل قرّر أيّ فريق تقديم حدّ أدنى من التنازلات لتلبية الحدّ الأدنى من مطالب الشعب التي لا ينكر أحد أنّها محقّة ومشروعة، وإن تحفّظ على توقيتها؟

ولأنّ الإجابات على معظم الأسئلة السابقة إن لم يكن كلّها "سلبيّة"، فإنّ شيئًا واحداً ثبّتته الأحداث الأخيرة، وهو أنّ "فسحة من الأمل" بدأت تنبعث من خلف "سواد" كلّ المؤامرات، أملٌ رسمه مواطنون أرادوا التحرّر من كلّ شيء، وعليهم فقط يمكن الرهان بصنع ثورةٍ بيضاء ناصعة... ونظيفة من المؤامرات!