عندما يكون المرء سفيراً لبلاده في اي دولة يحل فيها، تقع عليه مسؤولية مضاعفة لانه يمثل الدولة التي انتدبته ويكون لسان حالها وبمثابة الناطق الرسمي باسمها. وان يكون الدبلوماسي سفيراً للولايات المتحدة الاميركية في ​لبنان​، امر ليس باليسير او السهل، اذ تترتب عليه مسؤوليات كبيرة ويجب عليه ان يزن كل كلمة يقولها. من هنا، تحمل الكلمات التي ينطق بها السفير الاميركي لدى لبنان ​ديفيد هيل​ اكثر من معانيها المجردة، وحتى لو انها لا تقبل التأويل، فإنها بذاتها تحمل الدلالات كونها صادرة عن واشنطن تحديداً.

بعد زيارته السراي الكبير بالامس، تحدث هيل الى الصحافيين وكان تشديد على امرين اساسيين: الاول تطرق فيه الى المساعدة العسكرية الاميركية للبنان حيث ان من رافقه الى اللقاء كان نائب مساعد وزير الدفاع، وذلك للتدليل على ان المساعدات العسكرية للجيش اللبناني لن تتوقف ولو خفّت وتيرتها بعض الشيء، لان التركيز حالياً بات على الشق السياسي في لبنان اكثر منه على الجبهة العسكرية بعد التطورات الميدانية الاخيرة.

اما التركيز فكان على ما شهدته بيروت من مواجهات، وهنا يمكن التوقف عند عدة امور ونقاط تطرق اليها هيل. فقد تحدث عن الحكومة وقدم لها الدعم بما لا يرقى الى الشك، حيث قال انه بحث التحديات التي تواجهها، ولكنه ضرب على وتر الحريات العامة التي دائماً ما تشدد عليها اميركا في مواقفها، وتنطلق منها في سياساتها في اكثر من بلد، لان الرأي العام الاميركي يتفاعل مع مشاهد المواجهات بين المواطنين ورجال الامن، خصوصاً عند سقوط ضحايا مدنية.

وكانت "لطشة" من هيل لسلام والحكومة من خلال قوله ان سلام يشاطر اميركا القيم نفسها لجهة حماية حرية التعبير والتظاهر، وانه عند خرق هذا الحق، يجب اجراء محاسبة، ما يعني ان هيل بدا وكأنه لا يؤيد موقف سلام عندما المح الى ان التدخلات السياسية ستمنع محاسبة الامنيين الذين استعملوا العنف المفرط، ولو من باب "رفع العتب"، مشدداً على تأثره العميق بالصور ووقوع جرحى، اي بمعنى آخر طالب بعدم تكرار هذا النوع من المشاهد لانه سيسيء الى سلام والحكومة وسيوجب منه (اي السفير الاميركي) موقفاً انتقادياً اكثر قوة.

من هنا، يمكن القول ان التحرك السريع بعد ظهر امس لم يكن توقيته بريئاً، كما ان اجتراح حل "الحائط الاسمنتي" اتى لمنع اي مواجهة بين المواطنين والقوى الامنية، وبالتالي عدم تكرار مشاهد العنف التي انتشرت عبر مختلف وسائل الاعلام.

ترجمة سريعة لموقف هيل اذاً في هذا الشق، اما الشق الثاني فكان حثه على تفعيل عمل الحكومة لتأمين حقوق الناس في الحصول على الحاجات الاساسية، واتت الترجمة ايضاً عبر دعوة استثنائية لمجلس الوزراء اليوم.

وعرف هيل في المقابل كيفية الجلوس على الحياد في معركة شد الحبال بين الذين تظاهروا والحكومة، اذ اعتبر ان "المجتمع المدني" عبّر عن غضبه من الشلل السياسي الذي اسر لبنان وقت طويل". وقد تقصّد هيل وصف المتظاهرين بأنهم من المجتمع المدني، دون اي ذكر للخرق الذي شهده هذا التجمع باعتراف المسؤولين عنه من قبل جهات سياسية ارادت ايصال رسالة معينة، ونجحت بطبيعة الحال في ايصالها بصورة واضحة، كما انه تقصّد عدم ذكر مطالبة المتظاهرين باسقاط الحكومة او الوزراء او سلام، بل احال الموضوع الى الشلل السياسي.

قد يكون من المبالغ فيه القول ان كلام هيل كان السبب في التعجيل في كل ما حصل، ولكن من المنصف القول ان تأثيره كان مهماً على تسريع الخطى والاجراءات، ومن السذاجة تمرير كلامه في السراي وكأنه كلام دبلوماسي عادي لا يقدم ولا يؤخر.

لم يكن الهدف من كلام هيل ايجاد الحلول العاجلة لكل المشاكل التي يعاني منها لبنان، بل فقط ابقاء الستاتيكو الحالي دون تغيير، في انتظار الحل الذي سيوقظ لبنان من غيبوبته الطويلة.