تحت ظلال الثورة الفتية التي بدأت لتعلن للملأ أنّ ال​لبنان​يين لا زال لديهم إحساس بالكرامة والوعي والوطنية، هناك حديثٌ لا بد أن يقال.

لبنان جمهورية موز، هذه هي محصلّة نضال احزاب الحرب والتيارات الداعمة التي حكمت البلد كجائزة.

لبنان يموت كدولة وكمجتمع في ظل نظامٍ سياسي تقوده أحزاب لم تحمل يوماً في مشروعها أهدافاً إجتماعية بالمعنى الوطني، لا بل قد أمعنت فيه تدميراً وفساداً وبيعاً وإذلالاً.

التوصيف الذي فجر المشهد هو أن الذي يحكم البلاد ميليشيات تتخذ من الطائفية مبرراً لوجودها، ومرتهنة بالكامل للخارج، تستعين وتستقوي به على وطنها وشعبها ولا تحيا الا بماله وسلاحه، شخصانية هذا الزعيم، ثروته، أحلامه، اولاده وعائلته هي مشروع هذه الأحزاب وهو الهدف من نضالها.

تتخذ تبعية أحزاب الحرب الحاكمة أقنعة من الشعارات البراقة المزيفة، يزرعها السياسيون في عقول الناس لتصبح واقعاً لا مفر منه، "نحن شعبٌ مغلوب على أمره ولا طاقة لنا بمواجهة إرادات الدول الأخرى وتحكمها بنا". هذه خلاصة خطابهم السياسي وحتى الإجتماعي، وبعد استحكام السيطرة على مؤسسات الدولة من قبل هذه الأحزاب والميليشيات، عمم هذا الإنحراف المهين على سياسة الدولة بشكل غير مسبوق وصارت التبعية علنية، غير مخجلة، حتى انها أضحت مدعاة إفتخار للبعض منهم، يمجدونها في خطاباتهم وكلنا يعلم كيف من تطرح نفسها مرجعيات تصرح علناً و تخاطب الشعب بغية إفهامه بثقة الموقنين بأن الدولة الفلانية إن لم تتصالح مع تلك فلا حل في لبنان والعكس صحيح، تبعية سدت على اللبنانيين منافذ الحياة وقتلت دستورهم، في أكبر مثالٍ لتبعية مخجلة قضت على الكرامة الوطنية لبلادنا وكتبت عنها تاريخاً مهيناً مهما تفننوا في إسباغ الشرعية على هذه العمالة بطروحات سياسية لاصدى لها في الواقع اليومي المعاش وهي على كل حال لا تعني المواطن وهمومه الحياتية في شيء.

في أعراف و قوانين أي دولة أخرى في العالم يحاكم هؤلاء بتهمة التعامل أو حتى التخابر مع دولة اجنبية وبالخيانة العظمى. فالأوطان كالبشر، تحرص على إحترام ذاتها والمحافظة على كبريائها، ولطالما كان التدخل في شؤون دولة ما كفيلاً بأزمة دبلوماسية وبإنتفاضة الكرامات في عالم الدول إلا في دولة لبنان المحكوم من الأحزاب الميلشوية التي تؤجر الوطن أو تبيعه لأول مشتر، والتي ساومت المواطن على أمنه وقايضت استسلامه لهم بوصولها الى الحكم وتشليح الناس بمجازر ضريبية وقوانين بلهاء لم توفر حتى حليب الأطفال في حساباتها وجباياتها.

الحاكمون الميليشياويون، سياسيو الكهرباء المقطوعة، يسيطرون على البلاد بالتعاون مع الرأسماليين الكبار، مع رجال الدين الساكتين، مع وسائل إلإعلام، وبمجموعة من القباضايات لترهيب الناس (كمثل الذي حصل لإفشال حراك الناس الذي أرعبهم أو كعادة إطلاق النار عند ظهورهم على الشاشات لإلقاء الخطب).

يسيطرون بالطائفية وبالتحريض المذهبي على جمهورٍ لم يتلق اي تربية وطنية، ولا هو مؤهل فكرياً لمعرفة الفارق، ثغرة في فقرهم المادي والثقافي إستغلتها هذه الأحزاب، فكان جمهورها ممن لا يعرف معنى الانتماء لوطن دون الإنتماء لطائفة او لحزب، جمهورهم ينقاد إنقياداً مريضاً خلف شخص واحد، إنه جمهورٌ ممن لا يعتد برأيه في المجتمعات السليمة ولا يعد نخبوياً مؤثراً لإفتقاره للوعي وللقدرة على الفهم والإبداع وتمييز الخطأ من الصواب، ولإفتقاره إلى أية مشاريع وطروحاتٍ بناءة على المستوى الإجتماعي.

مع الوقت الطويل الذي أمضاه السياسيون في الحكم تغلغلوا بمناصريهم وازلامهم في مفاصل الدولة بالكامل، من وزارات، نقابات وقوى أمنية وهمهم الاكبر تعاظم ثرواتهم وتأمين إستمراريتهم في الحكم لأطول مدىً ممكن عبر جعل اللبناني كائناً ضائعاً، خائفاً ومجنوناً لا يرفض شيئًا ولا يفكر إلا غرائزياً، وعملوا على تطويع القوانين بما يتلائم مع مصالحهم لتصب كلها في خانة قتل المواطن أكثر، فتمادوا في إصدار قوانين ظالمة ومهينة مثل قانون السير واذلال الناس وسرقة اموالها في الوقوف صفوفاً في المعاينة الميكانيكية الاجبارية ورسوم وزارة المالية وضرائبها وبراءات الذمة، والغرامات وأسعار الخدمات، ، مغيرين ما تبقى من عادات جميلة في مجتمعنا ليفرضوا ضرائب حتى على الأموات وحتى على البيوت والى آخره من الرسوم الباهظة، فيما يصح وصفه بمجازر ضريبية، والناس تحت جورهم لم يكسبوا شيئاً، سوى ضياع مخيف لأعمارهم ومستقبل أولادهم.

فكرة الدولة كخصم للمواطن هي جلّ المفاهيم الثقافية الناتجة عن وجودهم ونضالهم، ولطول ما حكموا أصبحوا خطراً حقيقياً على مستقبل البلاد والأمة اللبنانية بأسرها وبالمعنى الوجودي تماماً.

ما حصل في رياض الصلح هو ردة فعل مفاجئة بالكامل لهذا النظام الذي تألّه أصحابه وطغوا، والذي لطالما رأى في اللبنانيين سذاجة وخنوعاً وجبناً وانقياداً، نظرة جعلت كل زعيم يحتقر الناس ولا يحسب لهم أي حساب، إن ثورة المواطنين النخبوية تشكل علامة فارقة في تاريخنا وشهادة على أن اللبنانيين ليسوا على هذا القدر من الغباء ولا على هذا القدر من فقدان الكرامة، ما قاله اللبنانيون يدل على وعي متطور ومتقدم في الشؤون السياسية والإجتماعية، إنه الإحساس الأقصى وعياً بالواقع والذي أفرغ خطاب السياسيين من أي معنى، إن السياسيين اليوم في مأزق إيجاد خطاب جديد يسيرون الناس من خلاله وهذا ما لن ينجحوا فيه من بعد السبت الماضي.

لم تعد الناس تحتمل، انها اللحظة التي يبدأ الشعب فيها بالإحساس بمشكلاته، تحت قاعدة أن الظلم ليس سبباً كافياً للثورات إنما الإحساس بالظلم هو السبب الحقيقي لإندلاع الثورات، الزمن لا يمكن أن يبقي الأشياء كما هي، كما لا يمكن فصل السياسة عن الإقتصاد وعن الواقع الإجتماعي، وهذا ما لا تدركه الأحزاب الحاكمة لجهلها ولغياب الطروحات الفكرية والوطنية عن أهدافها وعن تاريخها المدمر، نحن أمام تحدٍ وجودي يستلزم المطالبة بحلٍ نهائي لوضع لبنان كدولة، كنظام سياسي وكشعب لا وطناً بديلاً له إلا لبنان. وحتى لو لم ينجح الحراك الحالي في التغيير سريعاً، من المؤكد بديهياً أن هناك ثورات أخرى ستندلع، لأنه وببساطة: من أين لكثير من اللبنانيين المال لكل الفواتير الشهرية المفروضة عليه؟

لا بد من خلاص، من حل نهائي، من جديدٍ يعيد إلينا الحياة التي سلبتها منا الميليشيات طوال أربعين عاماً. ولأن البلاد لن تستكين بعد الآن، على الأحزاب والميليشيات الحكمة وسياسييهم ألا يدمروا البلاد مرتين وأن يتم إنقاذنا من عناء التعنت بحلٍ نراه الأمثل والأكثر ديمقراطية.

مابين الطائفية والمواطنة، يمكن تقديم الإقتراح الأمثل على انه تطوير إصلاحي للنظام السياسي اللبناني، وحل دائم يضمن إستمرارية الوطن وإعادة الحياة اليه من جديد وهذا الاقتراح هو كالآتي:

اولاً: تعديل الدستور، بما يفضي إلى إنتخاب، رئاسة الجمهورية، رئاسة مجلس النواب، رئاسة مجلس الوزراء من قبل الشعب مباشرة مع لبنان دائرة واحدة، مما يضمن عدم انحراف الرئيس المنتخب، وإستئثاره بالسلطة دهراً واحتكار منصبه، كما يضمن الإصلاح التلقائي للوضع الفاسد والتنافس الإيجابي فيما بينهم، والأهم سوف يستعيد المواطن اللبناني قيمته من خلال هذه الآلية، وسوف يحتفظ بزمام الأمور في يده وإلى الأبد، وسيراه الزعيم صوتاً ثميناً، ففي فرنسا مثلاً ينتخب الشعب رئيسه، ورئيس وزراءه، فلم لا نفعل المثل ونزيد على المَنصِبَين رئاسة مجلس النواب؟ كيف ننتخب نواب المجلس ولا ننتخب رئيسه؟

ولاضير فيما سبق أن تظل المناصب الثلاثة الأولى على طائفيتها ولكن على أن تنتخب مباشرة من قبل الشعب دائرة واحدة كما سبق.

ثانياً: أن يحل مجلس النواب نفسه أو أن يجتمع لتعديل الدستور لإقرار هذا القانون الإنتخابي الجديد. إن أمام رئيس المجلس النيابي نبيه بري فرصة ذهبية ليدخل التاريخ كبانٍ للبنان الجديد إذا ما قاد عملية إقرار هذا القانون الإنقاذي.

ثالثاً: أن تتم مراجعة كل القوانين، بما فيها القوانين الضريبية وتبعية المواطن القسرية لوزارة المال، لتعود الديناميكية الإقتصادية إلى البلاد وتريح المواطن وتشعره بالإنتماء لدولته وتسبغ على حياته نوعاً من الإطمئنان الذي فقده.

رابعاً: عند عودة الضمير الإجتماعي بنقده البناء الى الحياة، تبدأ عملية تطوير البلاد من تحديث القوانين وإصلاح ما فسد.

قد تستميت هذه الأحزاب والتيارات الميليشوية الحاكمة في رفض التغيير، وفي الدفاع عن مصالحها وجنّة الإمتيازات التي تعيشها، معادلة مقايضة سكوت المواطن بالأمن ما زالت سارية المفعول عندهم، وها هم الزعماء وليد جنبلاط وسمير جعجع وسعد الحريري يحذروننا من زعزعة الإستقرار الداخلي في إعلانٍ يشبه التهديد. نتمنى من السياسيين أن يعوا خطورة المرحلة، وألا يكابروا فيرتكبوا بالتالي خطأً جسيماً، وأن يعوا الحقيقة التاريخية الثابتة: لا يمكن لأي قوة في الدنيا أن تسحق قوة شعب ثائر على الظلم.

على الجيش والقوى الأمنية أن تحمي شعبها من أي محاولة لارهاب الناس بالسلاح والقبضايات، وإلا تحولت إلى قوى وظيفتها حماية الطبقة السياسية عوضاً عن حماية شعبها الذي تنتمي إليه وتستمد منه رواتبها وهذا ما سيزيد الحفرة عمقاً، وألا تتكرر المشاغبات في تظاهراتٍ أخرى لا مفر من حدوثها، مشاغبات توقعها اللبنانيون وجاءت منسجمة مع تصريحات السياسيين التي عادت لتقايض المواطن بأمنه.

لا يمكن أن تعود الأمور إلى سابق عهدها، إنه المسار التاريخي المعتاد للشعوب والذي نتمنى أن يقرأه السياسيون جيداً.

إن القانون المقترح أعلاه كفيلٌ بحل مشكلاتنا كلها دفعة واحدة، وهو إنتقال لمسافاتٍ بعيدة نحو الأمام ونتمنى أن يكون من بين الصيغ المقترحة لقانون إنتخابي جديد يسد الثغرات والعيوب التي تقف وراء الوضع القاتم الذي عاشه لبنان الحديث منذ أن تكوّن، كما أنه سيشكل مصالحة بين الناس وبين السياسيين إذا ما أقرّوه ونبدأ بعدها بداية جديدة موفرين على أنفسنا صراعاتٍ داخلية في الأفق و عناء البدائل الأقل فعالية على المدى الطويل.