في حقبة ما بعد الاحتلال السوريّ، أي منذ العام 2005 حتى اليوم، شهد لبنان معارك سياسيّة ضارية عشيّة تشكيل الحكومات، حيث سعت الأطراف السياسيّة الكبرى لتأمين "الثلث الضامن" أو "الثلث المُعطّل" على الأقلّ داخل مجلس الوزراء، وذلك بهدف تعطيل أيّ قرار لا توافق عليه، أو حتى بهدف التمتّع بالقدرة على إسقاط الحكومة من الداخل. وحكومة "المصلحة الوطنيّة" الحالية برئاسة تمّام سلام(1)ليست باستثناء! لكنّ ما حصل يوم الثلاثاء، لجهة عدم تأثّر الجلسة الحكوميّة بإنسحاب وزراء كلّ من "حزب الله" و"التيّار الوطني الحرّ" و"الطاشناق" إضافة إلى غياب ممثّل "تيّار المردة" بداعي السفر، وصدور قرارات تنفيذيّة عن الجلسة، شكّل ضربة قويّة لرئيس تكتّل "التغيير والاصلاح" العماد ميشال عون الذي هدّد طويلاً بعرقلة أعمال الحكومة ما لم يتمّ التقيّد بمعايير مُحدّدة رفعها بشأن العمل الحكومي وصلاحيّات الرئيس، إلخ. فما الذي حصل؟

بكل بساطة، إنّ ممثّلي كلاً من "تيّار المُستقبل" وحزب "الكتائب اللبنانيّة" ومسيحيّي "14 آذار" إضافة إلى ممثلّي "الحزب التقدّمي الإشتراكي" والرئيس السابق ميشال سليمان غير قادرين على تأمين ديمومة العمل الحكومي في ما لو تكافل كل أفرقاء فريق "8 آذار" ضُدّهم. لكنّ خروج رئيس المجلس النيابي نبيه برّي عن هذا التضامن، وقيام كلّ من وزيريه بمواصلة الجلسة بعد إنسحاب وزراء "الحزب" و"الوطني الحُرّ" و"الطاشناق"، أمّن من جهة النصاب القانوني لإستمرار الجلسة الحكوميّة عبر حُضور ما لا يقلّ عن ثلثي الوزراء على الرغم من غياب وزيري السياحة والثقافة ميشال فرعون وريمون عريجي بداعي السفر، وأمّن من جهة أخرى ميثاقية هذه الجلسة عبر مُشاركة ثلاثة وزراء من المذهب الشيعي، إثنان من حركة "أمل" إضافة إلى الوزير عبد المطلب حناوي المحسوب على سليمان.

وبهذا التصرّف من جانب وزيري برّي، تواصلت أعمال مجلس الوزراء بشكل طبيعي على الرغم من إنسحاب وزراء يُمثّلون قوى سياسيّة فاعلة وشعبيّة أساسيّة، ليسقط بذلك رهان المُقاطعة الذي كان يُهدّد به العماد عون، ورهان إسقاط الحكومة من الداخل. وهذا التطوّر يفتح الباب أمام إستمرار العمل الحكومي في المُستقبل، ولو بشكل مبتور وضعيف. والأسئلة التي تفرض نفسها بقوّة في ظلّ هذه التطوّرات، هي:

أوّلاً: هل ما يحدث بين "حزب الله" و"حركة أمل" هو مُجرّد تبادل أدوار، بحيث يتضامن "الحزب" أخلاقياً ومعنوياً مع حليفه "العَوني"، بينما تؤمّن "الحركة" إستمرار العمل الحكومي في إلتفاف على تهديدات "الجنرال" بإسقاطها؟

ثانياً: هل ما يحدث في الصفّ الشيعي، إذا جاز التعبير، هو تباين كبير في أسلوب التعاطي بين "حزب الله" و"حركة أمل" بالنسبة إلى العمل الحكومي، ومطالب العماد عون، والأزمة السياسيّة الراهنة في البلاد حالياً، أم أنّه توافق ضمني؟

ثالثاً: هل سيكتفي "حزب الله" بالتضامن المعنوي مع "التيّار الوطني الحُرّ"، أم أنّه سيُعيد الإعتبار إلى مقاطعته للحكومة، عبر مُساندة حليفه ميدانياً، عبر إنزال مُحازبيه ومُناصريه إلى الشوارع للتظاهر إلى جانب مُؤيّدي "التيار الوطني الحُرّ" الذين بدت تحرّكاتهم الميدانية ضعيفة في التظاهرات السيّارة الأخيرة؟

رابعاً: هل سيكتفي العماد عون بسياسة المُقاطعة وببعض التظاهرات المُتفرّقة، في ظلّ إستمرار تجاهل مطالبه، ونجاح خُصومه في تمرير أكثر من قرار بعكس إرادته، أم أنّه سيدفع بتصعيده إلى مستويات أعلى؟

الأيّام المُقبلة ستحمل بعضاً من الأجوبة على هذه التساؤلات وغيرها، وهي ستكون أكثر من حسّاسة، لما لها من تأثير على مُجمل الوضع السياسي الداخلي في الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، في ظلّ مرحلة إنتقالية تشهدها المنطقة بين الحرب والصراعات المفتوحة وُصولاً إلى التسويات المُنتظرة.

(1)شُكّلت الحكومة الحالية في 15 شباط 2014، وهي تضمّ 24 وزيراً، موزّعين على ثلاث مجموعات رئيسة، الأولى تابعة لقوى "14 آذار" والثانية تابعة لقوى "8 آذار" والثالثة محسوبة نظرياً على قوى وسطيّة، علماً أنّ قسماً منها هو أقرب إلى نهج "14 آذار".