هالَ السفارةَ الأميركية في عوكر التي تتولّى متابعة التطوّرات اللبنانية عن كثب ولحظةً بلحظة، خطأان فادحَان ارتكبَتهما الحكومة خلال مواجهتها تظاهرات «المجتمع المدني» الساخط على الفساد.

الخَطأ الأوّل تجَلّى في إطلاق النار على المتظاهرين ولو برَصاص مطّاطي، وذلك في اليوم الأوّل من التظاهر، والثاني وضعُ حاجز من «بلوكات» الباطون للفَصل بين ساحة رياض الصلح والسراي الحكومي. ففي الحالَين أوحَت الحكومة بأنّها كانت الطرفَ الأضعف والخائف، وأنّها على حافة الخسارة، ما يَدفعها إلى التخَبّط في معركة الدفاع عن نفسها.

فعَلت الملاحظات الأميركية فِعلها، فتوقّفَ إطلاق الرصاص المطّاطي وأُرفِق ذلك بفتح تحقيقات، وأزيلت «بلوكات» الباطون بعد أقلّ من 24 ساعة على وضعِها بذريعةِ أنّ رئيس الحكومة تمام سلام رفضَها فور»عِلمه بها».

وكان السفير ديفيد هيل يُنهي استعداداته للانتقال إلى مقرّ عمله الجديد في باكستان بعدما كان أرجأ ذلك للمرّة الأولى بطلب من حكومته لمتابعة أزمة التعيينات الأمنية نظراً للأولوية المطلقة التي توليها واشنطن للجيش اللبناني. واليوم تبدو واشنطن وكأنّها تُفَضّل تأجيلَ رحيل هيل بعضَ الوقت حتّى جلاء صورة الأحداث في رياض الصلح، والتي تَختزن إشارات كثيرة ورسائل كبيرة تُطاول الاستقرار الحكومي.

خلال الأسابيع الماضية بدَت واشنطن راضيةً عن تجاوز مطَبّ التعيينات الأمنية، وهي تابعَت تسليحَ الجيش والتأكّد مِن مسألة الذخائر، وواكبَت تجهيزَ طائرة «سيسنا» ثانية بالأسلحة القادرة على إطلاق صواريخ جو- أرض، والحركة المواكبة لتجهيز طائرة «سيسنا» ثالثة بالأسلحة قبل نهاية السنة. وقد تمّ أيضاً إنجاز كلّ المعاملات المطلوبة وإنهاء العقود بالطرق القانونية للبَدء بتصنيع سربٍ مِن طائرات «السوبر توكانو» ليُصبحَ في متناول سلاح الجوّ اللبناني في مدّة أقصاها سَنة من الآن.

لكنّ انفجار التظاهرات الشعبية في وجه الحكومة عدَّل كثيراً من برامج السفير الأميركي. خلال الأسابيع الماضية كان هيل يُمطِر زوّاره من السياسيين بأسئلة حول المعنى السياسي لأزمة النفايات. لم يفهَم منها شيئاً سوى أنّها وجهٌ فاقع من وجوه الفساد، ما يؤدّي إلى إضعاف موقف الحكومة في ظروف سياسية دقيقة كالتي تمرّ بها المنطقة.

وقيل إنّه مع تدَفّق المواطنين إلى ساحة رياض الصلح، تابعَ ديبلوماسيون غربيّون تطوّرات الوضع من خلال شاشات التلفزة ووضَع أحدُ هؤلاء إصبعَه على العناصر الملثّمة التي كانت تحاول إزالة الحواجز الشائكة، وسأل: مَن يكون هؤلاء؟ وتابع: «هناك رسالة واضحة لا بدّ من فَكفكة رموزها».

في الأساس غرقَت الحكومة أو الداعم الرئيس لها أيّ تيار «المستقبل» في جملةٍ مِن التقديرات السياسية الخاطئة. مرّةً جديدة لم يُحسِن هذا الفريق قراءة الخطوط السياسية والوقائعَ على حقيقتها. إذ سادت نظرية انشغال «حزب الله» بالحرب السورية وغرَقِه في وحولها إلى درجة أنّه يريد النأيَ بنفسه عن أيّ مشكلات داخلية في لبنان، وفقَ مبدأ تجَنُّب فتح مواجهتين في وقت واحد.

في المقابل، كان «حزب الله» يراقب ويتابع ويواكب بدءَ المرحلة الجديدة بين واشنطن وطهران، حيث مِن المفترَض أن لا يكون بعيداً عن التواصل الذي كان ناشِطاً في الكواليس بين البلدَين، وهو التواصُل الذي يفوق أهمّيةً بدرَجات جلسات التفاوض العلنية حول الملف النووي. «حزب الله» كان يَستعدّ لحركة داخلية لبنانية تحاكي التطوّرات الكبيرة في الخارج.

وهو كان متأكّداً من أنّ الفريقَ الآخر سيستعدّ للهجوم سياسياً في لبنان وعسكرياً في سوريا واليمن. لذلك كان ينظر إلى محاصرة النائب ميشال عون على أنّه ضربةٌ أولى في اتّجاهه.

تيّار «المستقبل» من جهتِه استندَ إلى الأجواء التفاؤلية الصادرة عن الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف وبَنى عليها بأنّ إيران ذاهبة إلى التسوية سريعاً، وأنّ «حزب الله» المأزوم والمحرَج بعلاقته مع «التيار الوطني الحر» يطلق مواقفَ شكلية أكثر منها فعلية، فيما الحزب كان يقرأ في الهجوم بداية تطويق له.

كان معلوماً أنّ «حزب الله» يدين بالولاء لتيار المحافظين في إيران، فيما خصومُه في لبنان كان يَحلو لهم ترتيب سياستهم على أساس المواقف الناعمة لرئيس الدولة ووزير خارجيته.

في هذا الوقت كانت «خطيئة» الفساد تكبر وتَخنق الناس بروائح النفايات المنتشرة عند كلّ زاوية، في مشهد لم يعرفه لبنان حتى خلال أسوأ أيام الحرب الأهلية. وأضحَت الأمور ناضجةً للاندفاع في منعطف لبناني داخلي جديد، فكانت تظاهرات رياض الصلح.

لذلك تمَعَّنَ الديبلوماسيون الغربيون كثيراً في اكتشاف حقيقة هويّة الذين اندفَعوا في اتّجاه السراي الحكومي ونفَّذوا أعمال شغَب طاوَلت أملاكَ «سوليدير» دون سواها.

وراقبَ هؤلاء أيضاً ردّة الفعل الانفعالية لأركان الحكومة والتي ضاعفَت من رصيد معارضيها وقوّتهم. فاللعبة أصبحت أكبر والطريق الجديد الذي دخلَ إليه لبنان لتَوِّه يصِل في نهايته إلى نظام جديد.

لم يُصدّق أركان الحكومة في السابق أنّ هناك مَن ينتظر أخطاءَهم وخطاياهم لأخذ البلد إلى واقع جديد. إعتقَدوا أنّ مَن كان ينصحهم بالتنازل قليلاً منعاً لخسارة «نظام الطائف» إنّما كان يهوّل عليهم. ربّما المناخ الوحيد الذي تبَقّى هو دفع الأمور لفرض انتخابات رئاسية، وإلّا فإنّ جمهورية ثالثة باتت تَلوح في الأفق والطريق إليها سيكون حافلاً بالأزمات والعواصف والصراع السياسي العنيف.