منذ أن اندلع الحريق العربي في المنطقة كان سؤال يرتسم حول الوضع اللبناني وعما إذا كان لبنان سيلحق بذاك الحريق أو يبقى بمنأى عن لهيبه، ويبدو أن الخيار الذي اعتمده الجميع باتفاق أو تفاهم أو بالصدفة كان أن يعلق الشأن اللبناني. حتى إنجاز الشأن الإقليمي ورسوّه على برّ يستقرّ عليه، خيار اعتمده جميع المعنيين تقريباً كلّ لأسبابه ولكن كلهم تقريباً أبدوا قناعة به وترجموه بمقولة «الاستقرار في لبنان خط أحمر» مرفقة بمقولة ينكرها البعض على رغم إنها حقيقة قائمة تتمثل بالقول أن «على لبنان لمعاودة الحياة الطبيعية انتظار حل ملفات المنطقة»، مقولة كان من نتيجتها شغور مقعد رئيس الجمهورية وإقفال مجلس النواب وشلّ الحكومة، وملء مراكز عسكرية بالتمديد لشاغليها وترك مراكز أخرى عسكرية ومدنية خاوية شاغرة تنتظر.

لقد تمّ ربط لبنان بالمنطقة بهذه الصيغة السحرية «انتظار لا انفجار» لأسباب ثلاثة:

الأول عدم وجود حالة لبنانية استقلالية فعلية تحد من التدخل الخارجي فيه، تدخل تطور إلى الحد الذي بات معظم المتحركين على الساحة الداخلية ينتظرون أوامر مرجعيتهم في الخارج لاتخاذ موقف أو لنفض موقف كانوا التزموا به كما حصل مثلاً في مسألة قياده الجيش وتراجع الحريري عن التزامه حيال العماد عون، أو كما حصل مع رئاسة الجمهورية المعطلة انتخاباتها منذ اللحظة التي وضع فيها الوزير السعودي سعود الفيصل الفيتو على العماد عون المرشح الفعلي والمنطقي والطبيعي للمقعد بحسب النظام الطائفي اللبناني.

أما السبب الثاني فيكمن في حاجة الأطراف إلى إبقاء ورقة لبنان في اليد لاستعمالها عند الحاجة أي عند الشروع بترتيب خريطة المنطقة ونظامها بعد الحريق الذي يلتهمها، سواء كان ترتيباً نتيجة نصر وهزيمة وعندها يكون لبنان من حصة الفريق المنتصر أو كان ترتيباً نتيجة تسوية وعندها يستعمل لبنان في عملية «تعديل الحصص». أي في الحالين ليس من مصلحة الخارج حسم الملف اللبناني وإخراجه من دائرة التداول قبل الفراغ من ملفات المنطقة.

ويبقى السبب الثالث مرتبطاً بحاجة الأطراف الخارجية إلى موقع هادئ على شاطئ المتوسط يديرون منه الحريق العربي ويحركون عبره النار في سورية والعراق ويتخذونه مرصداً للأحداث في المنطقة أو منبراً للإعلام وإدارة الحرب النفسية أو متنفساً للمتصارعين.

هذه الأسباب هي التي جعلت لبنان «ينعم» بحالة من الاستقرار النسبي على رغم النيران العارضة أو المنتقلة التي كانت تندلع هنا وهناك، وهذا الواقع جعل مؤسسات الأمن والدفاع عن لبنان تتقدم عما سواها دوراً وفعالية وجعل بعض العاملين عليها يتبوؤون مركز الصدارة والأهمية في الحياة العامة اللبنانية، مستفيدين من مقولة «الاستقرار اللبناني خط أحمر».

ولكن السؤال ومع تحرك الشارع اللبناني بما يثير هواجس تنقض ما سبق، واهتزاز الوضع الأمني في بعض المناطق، خصوصاً في مخيم عين الحلوة في شكل يثير هواجس أخرى يعود السؤال مجدداً هل انتهى عهد الوفاق الإقليمي والدولي حول استقرار لبنان والحاجة إلى استمراره؟

إن الجواب على السؤال مرتبط ببقاء الأسباب التي حملت على الاستقرار، يضاف إليها عناصر من طبيعة النظام الطائفي اللبناني العقيم، وعوامل أخرى متصلة بحنكة المسؤولين في لبنان أو بصيرتهم أو حمقهم. وعلى هذا الأساس وربطاً بالأسباب الخارجية نرى أن لا شيء تبدّل في الإقليم حتى الآن في شكل جوهري يجعل الأطراف الدوليين يتراجعون عن «مطلب استقرار لبنان»، ونحن هنا نستطيع القول إنّ تراجع هذه الأطراف عن هذا الأمر يعني أنّ المنطقة دخلت في مرحلة الحلّ المستوجب تسخين الوضع اللبناني لإلحاقه بطبخة الحلول، وعلى رغم أننا نرى أنّ مرحلة الحرب الحاسمة سقطت وأسدل الستار عليها، فإننا نرى أيضاً أنّ مرحلة الحلول لم يفتح بابها بعد، فالمنطقة الآن في مرحلة انتقالية وظيفتها تهيئة البيئة للحلّ، وهي مرحلة لا يمكن التكهّن بمدّتها والتي قد تمتدّ إلى أشهر تتجاوز السنة، ما يعني أنّ استقرار لبنان خلالها سيبقى حاجة لأطراف الخارج.

أما الداخل ومع وجود بعض الرؤوس الحامية وقصار النظر والبصيرة، فإننا لا نستبعد إقدام بعض المسؤولين على سلوكيات مستفزة تتجاوز روح الدستور ومفهوم الشراكة الوطنية فيه، وتقدم على اتخاذ قرارات تلزم الفريق المتضرّر بالتحرك للتصدّي لها، ولمنع إرساء أمر واقع مناقض لمصالحه المباشرة وللمصلحة الوطنية في شكل عام، ما يجبره على التحرك لوقف الانتهاك، تحرك قد لا يرى أفضل من الشارع ميداناً له، وهنا يكون الأمر عرضة لاحتمال الاستغلال والتسرّب بما ينذر بتسخين ما، يثير معه مخاوف الانفجار الذي يراه البعض حاجة للخروج من واقع المراوحة والشلل والتعطيل الحالي.

لذلك نرى ربطاً بالأسباب الخارجية أنّ الانفجار اللبناني بعيد طالما أنّ الحلول في المنطقة بعيدة ولكنه أيضاً غير مستبعد الوقوع في لحظة ما مرتبطة بسوء تصرف المسؤولين وكيدية البعض منهم، وهنا إذا حصل ذلك لا نرى أن يكون هذا الانفجار مدخلاً لتسوية كما حصل في العام 2008، فظروف المنطقة ولبنان اختلفت في شكل شبه كلي، وموازين القوى تبدّلت وما كان يحتمل التسوية سابقاً بات لا يعالج بأقلّ من العودة إلى الأصل والجذور. وعليه نرى أنّ أيّ انفجار إذا وقع في لبنان ولم يتم احتواؤه بسرعة فإنه يعني أمرين معاً:

1 ـ الأول أنّ زمن الحلّ في المنطقة اقترب وتقرّر إلحاق لبنان بالحريق ليكون جزءاً من الحلّ.

2 ـ الثاني هو أن تغييراً في لبنان سيقع بعد أن بات حاجة يفرضها ارتباطه بصورة المنطقة الجديدة.

وعندما نتحدث عن هذه الصورة الجديدة المستقبلية لا نعني أنها ستكون أفضل حتماً بل قد تكون أسوأ إذا خرج لبنان في نصيب الفريق الاستعماري جزءاً من منطقة نفوذه أو فضائه الاستراتيجي، ومستقبل يكون أفضل إذا جاء لبنان في حصة الفريق السيادي وعندها يمكن التحدث عن مشروع بناء الدولة ليكون العلاج للداء السياسي اللبناني المتمثل بالفشل حتى الآن في إيجاد دولة والفشل في تحقيق استقلالها، والاكتفاء في بناء الكهوف الطائفية التي تمنع قيامها وتجعل من الناس عبيداً لأمراء الطوائف بدل أن يكونوا مواطنين أحراراً متساوين في دولة حرة مستقلة سيّدة.