مع اتساع الهوة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية حول العديد من الملفات الدولية، ما تزال مناطق الاشتباك المباشر حول العالم تحافظ على سخونتها، وإن تمّ تسييجها من حين إلى آخر بمواقف خطابية عن الحوار وبقية المصطلحات ذات الصلة.

ما يعكس السخونة هو ارتفاع منسوب المناورات العسكرية من جانب الطرفين، إن كان على المستوى الأحادي، أو ثنائي مع حليف لهذا أو لذاك، أو مناورات جماعية تضم أوسع نسبة من مكونات كل حلف بذاته.

من الملاحظ أن حجم المناورات العسكرية في تزايد مضطرد، وفي أماكن مختلفة من العالم، حيث لكل ميدان خصوصية بالغة، من حيث الموقع الجغرافي والأسلحة المشاركة وحجم العديد البشري، وصولاً إلى عدم استثناء الأسلحة النووية أو تلك المصنَّعة لحمل أسلحة نووية، الأمر الذي يعكس عمق الهوة السياسية بين المتنازعين وجوهرها الاقتصادي، والصراع على النفوذ في العالم.

من دون أدنى شك فإن المناورات تحمل في طياتها رسائل بالغة الدلالة إلى الخصم أو الخصوم، ولا تقتصر على مواصلة التدريب على أحدث منتجات الأسلحة لاستيعابها بشكل جماعي، أو التنسيق بين القوى والوحدات المشاركة لرفع مستوى الكفاءة استعداداً للطوارئ أو الحاجة، فالواضح من اختيار الميدان أن عنوان الأخير يشكّل الرسالة الأوضح عادة، سيما أنها تتزامن مع سجال كلامي حاد يخيَّل للمراقب أن الحرب الباردة قد تتحول في أي لحظة، وكأن الحرب بنيران مستعرة واقعة لا محالة، إن لم يكن اليوم فغداً.

لعل المناورات الأخطر تلك التي أقامتها الولايات المتحدة قبل أقل من شهر، وحشدت لها مكونات من الحلف الأطلسي، مضافة إليها دول من البلطيق، وأخريات كانت في صلب حلف وارسو قبل تفككه مع انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية، وعلى أبواب روسيا، حيث كان ميدان المناورات غرب أوكرانيا، واصطحبها قائد القوات الأميركية المشاركة الجنرال الفرد رانزي بإعلانه أن "الهدف من المناورات هو إبراز قدرة الوحدات المتعددة الجنسيات على العمل كفريق سياسي واحد متجانس تماماً".

هذه التحركات الأطلسية - المناورات ، التي اعتبرت موسكو أن من شأنها تقويض التقدم الذي يتم إحرازه في مفاوضات السلام الهش في أوكرانيا، ليست إلا واحدة من الاستفزازات الخطيرة التي تدفع روسيا الناهضة من كبوتها إلى قبول التحدي، من خلال إجراء مناورات في ميناء سيفاستوبول؛ رمز شبه جزيرة القرم التي عادت إليها من السيطرة الأوكرانية، والتي قدّمها لها هدية الرئيس السوفياتي نيكيتا خروتشيف.

المناورات الروسية تلاها اجتماع عقده الرئيس الروسي مع كبار العسكريين الروس لدراسة الخطوات المقبلة تجاه الغرب، بموازاة قيام فنلندا الأطلسية الهوى والمجاورة لروسيا بمضاعفة تدابيرها العسكرية "الدفاعية"، بحجة المخاوف من هجوم روسي مفاجىء، وواكب الإجراء الفنلندي موقف للحلف الأطلسي رُوِّج فيه أن جميع تحركاته العسكرية دفاعية، ومن غير العادل مقارنة تحركات قواته وتدريباتها بشكل متساوٍ مع روسيا التي أعلنت عن إجراء 4000 مناورة هذا العام، وهو عدد أكثر عشر مرات من مناورات الأطلسي.

ومن المناورات البالغة الدلالة تلك التي أجرتها الولايات المتحدة واليابان بالتوازي مع احتدام السجال الصيني الياباني حول الجزر في بحر الصين، والتي منحت الولايات المتحدة طوكيو السيادة المؤقتة عليها، ولم تفِ بوعد إعادتها إلى الصين.

ولذلك، أطلقت الصين مناورة "قوة اللهب" 2015 في إطار المناورة التعبوية للجيش، شاركت فيها قوات جوية وبرية، والاستطلاع والقيادة والسيطرة، وبمواكبة مناورات صينية مشتركة مع روسيا في أيار وحزيران، تضمنت مناورة إنزال للقوات المجوقلة والقوات البرمائية، فضلاً عن مناورات مشتركة أيضاً في القسم الشرقي من البحر المتوسط مقابل مناورات أميركية - "إسرائيلية".

الأحدث هو المناورات الأميركية - الكورية الجنوبية التي يشارك فيها 50 ألف جندي كوري، و30 ألف جندي أميركي، وسط توتّر متزايد بين شطري شبه الجزيرة الكورية، وصل إلى حد إعلان حالة الحرب، وهذه المناورات التي تبدو خطيرة تجري على مقربة منها مناورات روسية صينية في بحر اليابان، تشارك فيها مدمرات وطائرات من كل الأنواع.

إن الرسائل المتبادلة من خلال المناورات في عز التوتر الإقليمي والدولي تحمل في جوهرها الشروط المتبادلة على رسم الخرائط الدولية، وإذا كانت منطقتنا في الشكل والمضمون هي العنوان الأسطع من خلال الوضعين السوري والعراقي، فإن مناورات المتوسط هي رسالة حاسمة بأن رسم الخرائط على الأهواء التركية - "الإسرائيلية" - الأميركية ليس مسموحاً، ففي المتوسط قاعدة روسية في طرطوس قد تصبح اثنتين، وما إظهار الوجود العسكري الروسي - الصيني المشترك فضلاً عن الوجود الإيراني الأصيل في المنطقة، والمناورات التي تجريها إيران بالتتابع، وتواجد القوى الثلاث في الأماكن الحساسة التي تفتعل فيها الولايات المتحدة وأتباعها أزمات، ليست إلا أدلة على الاحتدام، جراء محاولات الولايات المتحدة تطويق روسيا والصين وإيران.