مؤسفة كانت التجربة القيادية والشعبية لحركة "طلعت ريحتكم"، لأن المنظمين تخبّطوا في عجزهم عن القراءة السياسية لحجمهم، قياساً إلى المتربصين بهم من أباطرة السلطة، ورسبوا في امتحان الثبات على الأهداف المرجوّة من تحركاتهم، وضيّعوا فرصة الاستفادة من الدفق الشعبي الذي تأمّن لهم عشية يوم الأحد في الثالث والعشرين من آب الماضي، خصوصاً أن آلاف الذين شاركوا في الاعتصام والتظاهر في ذلك اليوم جاؤوا على خلفية ما حصل من اعتداءات في اليوم السابق، وغادروا خائبين ليس فقط من أعمال الشغب التي ارتكبها المندسون، بل لأن المنظمين لم يقرأوا هوية هؤلاء المندسين ومن أرسلهم ليقوّضوا أحلام الناس المتنوعة والمتباعدة.

كان على المنظمين الانتباه إلى الخطة المُحكمة التي أُعدّت لهم.. ليلة السبت التي سبقت المواجهات الكبرى، أعلن النائب وليد جنبلاط أن الأمور ستدخل في الفوضى، وأمر مناصريه بالانسحاب وعدم المشاركة في اليوم التالي، وفي الصباح دخل المندسون، وانتماؤهم معروف، وبدأت عملية تحويل التحرُّك السلمي إلى أعمال شغب مقصودة، واكتفى المنظمون بالتبرؤ من الدخلاء، وطلبوا من الجماهير الانتقال إلى ساحة الشهداء، لأنهم عجزوا تنظيمياً عن ضبط الوضع والحفاظ على سلمية التحرك، خصوصاً أن الإرباك في وضع الأهداف بدا كالبورصة المتحركة؛ استقالة مشنوق البيئة، ثم استقالة مشنوق الداخلية، فاستقالة المشنوقَيْن، ثم استقالة الرئيس سلام مع استقالة المجلس النيابي، وكأن المسألة "لعبة بيت بيوت"، وليس بين أعضاء اللجنة من هو خبير دستوري أو قانوني، أو على الأقل مناضل وطني خبير بالثورات وإدارة التحوّلات ليشرح للناس كيف بإمكانهم كنس السياسيين والحكومة والمجلس النيالبي مع النفايات بدون طرح آلية دستورية!

بالغت "طلعت ريحتكم" في بناء الأحلام؛ إسقاط مجلسي الوزراء والنواب؟ وكان القرار من السلطة ومن المنتفعين من ملف النفايات، القابعين على مدى سنوات خلف مجلس المهجرين ومجلس الجنوب ومجلس الإنماء والإعمار، وبات منظمو "طلعت ريحتكم" في مواجهة خمسة مجالس، وهم لا يمتلكون حيثية شعبية لمقارعة أقطاب يلعبون بالدولة اللبنانية منذ عقود بالأصابع الخمسة!

سقطت اللجنة التنظيمية في المحظور الأعظم والأخطر عندما أعلنت في آخر بنوك أهدافها رفضها إجراء المناقصات وتلزيم الشركات الخاصة، واقترحت ترك معالجة النفايات للبلديات، ما يعني أن 700 مكب أو مطمر على الأقل سينتشرون بين المدن والقرى اللبنانية، وهذا ما جعل الناس تتبرّم من هذه الطروحات الغوغائية، لأن الشعب البسيط يريد أن يرتاح من النفايات، وآخر همومه أن "يأكل" من جبنة محاصصتها، ولا أحد يرضى أن تغدو كل قرية مطمراً.

وسقطت هذه اللجنة أدبياً من خلال مساواتها بين الأحزاب الشريفة والوزراء الناشطين والنواب الأوادم مع أحزاب العمالة ووزراء الصفقات والنواب الذين مدّدوا لأنفسهم ومدّدوا للفساد حتى العام 2017، وسقطت من خلال الهجوم على من سبقوها في مكافحة الفساد عبر الاستجوابات، والأسئلة الموجَّهة إلى الحكومة، والملفات المحالة إلى النيابة العامة المالية، وحكمت على كل تحرّكاتها المستقبلبة بالفشل لأنها تتبع أسلوباً مرتبكاً في تحركاتها، عبر التهجم على الجميع، لأن بعض الأحزاب غير متورطة بأي من ملفات الفساد المالي وطالتها الهجومات أسوةً بمن نهبوا البلد من العام 1990 وحتى اليوم.

ها هي "سوكلين" تعود عبر "لا فاجيت"، أو تحت مسميات أخرى، بعد قرار مجلس الوزراء إلغاء المناقصات، لمزيد من "العدالة" في إعادة توزيع الحصص، علماً أن "سوكلين" لم تعد بحاجة للعمل في لبنان، وباتت تؤمّن نفس الخدمات لخمس وثلاثين مدينة في الخارج، وباتت نفايات بيروت مجرد مقلع ذهب في جيب الحريري، وعكار باتت بالنسبة إليه مطمراً لأنه قرر الارتحال عن لبنان، ويعرض مع السيدة نازك الحريري قصري قريطم وفاريا للبيع، بعد أن باع عقارات أخرى لتعويم شركة "سعودي أوجيه" الغارقة في الديون نتيجة الاختلاسات، والسلام على مؤسسات الحريري السياسية والخيرية في لبنان، لأن لبنان لا يساوي لدى الحريري أكثر من شركة "سوكلين" مادام لا أمل له بالعودة إلى السراي يوماً، ومادام أنه صادر عشرات النواب الذين يحمل ثقلهم السياسي في طائرته ويتحكم بالبلد حتى العام 2017 عبر التمديد، ولا حل في لبنان لكل المجالس والمؤسسات والمناصب قبل أن يُحسم الوضع في سورية، وكفى الساحات استقبال هواة "العربشة" على أكتاف المساكين، لأن للساحات أربابها وللميادين أسيادها، وساحة الشهداء ليست لـ"كركرة الأراكيل" والكلام الأجوف، ونأسف على حركة "طلعت ريحتكم" خروجها المبكر من الشارع السياسي والشعبي لأنها خيّبت الآمال في قراءة الأمور وكما "طلعت عالمنابر نزلت"، ولم تحقق سوى إنجاز واحد، أنها قطعت على الوزير نهاد المشنوق إجازته الترفيهية وحفلات الـ "بيتش بارتي"..