منذ توقيع الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية في ​إيران​، حُكي الكثير عن تداعياته المتوقعة في المنطقة عمومًا ولبنان خصوصًا، وذهب الكثيرون بعيدًا في "تخيّلاتهم" لحدّ توقع "انقلاب" بلاد العم سام مئة وثمانين درجة في مقاربة شؤون المنطقة، وصولاً حتى تبنّي وجهة النظر الإيرانيّة من دون أيّ مساءلةٍ أو مراجعة.

وإذا كان "غضب" من يمكن تسميتهم بـ"أصدقاء أميركا في المنطقة"، من دول الخليج إلى إسرائيل، وامتعاضهم غير الخفي من الاتفاق، ساهم في تعزيز هذه النظرية بشكلٍ أو بآخر، فإنّ خروج الرئيس الأميركي ​باراك أوباما​ لحدّ "تهديد" رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو بـ"صواريخ حزب الله" في حال مضيّه في معارضة الاتفاق زاد من حدّة "الغموض"، وأثار من علامات الاستفهام ما أثاره..

اتفاق تقني محض؟!

منذ اليوم الأول لتوقيع الاتفاق النووي، يحرص الأميركيون على التأكيد على أنّ ما قبل الاتفاق لا يختلف بشيءٍ عمّا بعده من الناحية السياسية، وأنّ النظرة الأميركية للأمور لا تزال هي هي.

قد يقول قائل أنّ هذه التصريحات لا تعكس الحقيقة الكاملة، ولكنّها من الضروري أن تصدر عن الإدارة الأميركية في هذه المرحلة "حفظاً لماء الوجه" مع حلفائها وأصدقائها، الذين ستبقى بحاجةٍ إليهم طالما أنّ الاتفاق النووي لا يزال في مرحلة "الاختبار"، الذي يمكن للمرء أن يُكرَم فيه كما يمكن أن يُهان. إلا أنّ المسؤولين الأميركيين يرفضون هذه المقاربة أيضًا، باعتبار أنّها مجافية للحقيقة بل بعيدة عن المنطق والعقلانيّة بشكلٍ كبير.

"الاتفاق النووي هو اتفاق تقني محض حققت فيه الإدارة الأميركية مكسباً أساسياً بمنعها إيران من تطوير قنبلة نووية في المستقبل"، بهذه العبارات يختصر مصدر في وزارة الخارجية الأميركية لـ"النشرة" فحوى الاتفاق، مشدّداً على أنّه شديد التعقيد، ولافتاً إلى أنّ التجربة هي التي ستحكم عليه، علمًا أنّ العقوبات الدولية على إيران لن تُرفَع دفعة واحدة بل على مراحل، بناءً على التزام إيران بالتعهّدات التي قطعتها.

حزب الله "إرهابي"!

وفقاً للمصدر الأميركي، فإنّ "لا أوهام أميركية بالنسبة لدور إيران في المنطقة" أفرزها الاتفاق الموقّع حديثاً، ويوضح أنّ الولايات المتحدة لا تزال قلقة من الدور الذي تلعبه إيران في أكثر من بقعة في هذه المنطقة، ولا سيما في لبنان، سوريا، اليمن ومناطق أخرى. "الاتفاق لم يغيّر شيئاً في قناعاتنا السياسية ومقارباتنا للأمور، بل إنّ قلقنا يزداد من الممارسات الإيرانية في المنطقة والتي يمكن أن تزداد في المرحلة المقبلة"، يقول المصدر، لافتاً إلى أنّ المفاوضات الأميركية الإيرانية ركّزت حصرًا على الملف النووي دون غيره من الملفات الإقليمية والدولية الساخنة.

ويسري المبدأ نفسه على نظرة الولايات المتحدة الأميركية إلى "حزب الله" في لبنان، كما يبدو واضحًا من نبرة المصدر الأميركي، الذي لا يتردّد برهة قبل الإجابة عن سؤال حول حدوث انقلابٍ في هذه النظرة، ليقول وباللغة العربية الفصيحة "أبداً". يوضح المصدر أنّ الإدارة الأميركية لا تزال تصنّف الحزب كـ"تنظيم إرهابي"، وأنّ هذا التصنيف لم يتغيّر على الإطلاق، وبالتالي فهو لم يتأثر لا بالاتفاق النووي ولا بما يُحكى عن دورٍ يلعبه الحزب في محاربة التنظيمات التكفيرية والمتطرّفة وعلى رأسها "داعش".

أكثر من ذلك، يعتبر المصدر الأميركي أنّ انخراط "حزب الله" في الحرب السورية تحت مسمّى محاربة الإرهاب أو غيره يعقّد الأمور ولا يسهّلها عمليًا. يشير إلى أنّ الموقف الأميركي واضحٌ في هذا الصدد، وهو أنّ "حزب الله" لا ينبغي به التواجد في سوريا، بل إنّ اللبنانيين بشكلٍ عام لا يفترض أن يشاركوا في الحرب السورية، خصوصًا أنّ لدى لبنان ما يكفيه من التحديات الداخلية، وهو ليس بحاجة لخلق صراعاتٍ جديدة لا ناقة له فيها ولا جمل.

الرئاسة شأن لبناني..

لدى لبنان ما يكفيه من تحديات واستحقاقات إذاً وهو ليس بحاجة لما يضيفه إليها، يقول المصدر الأميركي. وبطبيعة الحال، فإنّ أول هذه الاستحقاقات هو استحقاق انتخاب رئيسٍ للجمهورية، استحقاقٌ كان يفترض أن يُنجز منذ الخامس والعشرين من أيار 2014، أي قبل سنة وثلاثة أشهر، ولكنّه لا يزال معلّقاً بانتظار معجزةٍ ما.

لا يعتبر المصدر نفسَهُ معنياً بما أثير في السابق عن أنّ الاتفاق النووي سيترجَم فورًا بانتخاب رئيسٍ في لبنان، ولا بما يُثار حالياً عن أنّ الرئيس اللبناني ينتظر نضوج ​الاتفاق الايراني الغربي​. برأيه، فإنّ الرئاسة هي شأنٌ لبناني محض لا علاقة لأحدٍ به سوى اللبنانيين أنفسهم، الذين عليهم أن يبذلوا كلّ الجهود الممكنة لانتخاب رئيسٍ في أسرع وقتٍ ممكن.

يؤكد المصدر أنّ الولايات المتحدة الأميركية، كما المجتمع الدولي بشكلٍ عام، داعمة للبنان على هذا الصعيد، فلبنان لا يستطيع أن يواجه التحديات التي تنتظره، ولا سيما منها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، إلا بانتخاب رئيسٍ، ولكنّه يرى أنّ الخطوة الأساسية يجب أن تكون لبنانية ذاتية، موضحاً أنّ هذا الأمر يتطلب جلوس مختلف الأفرقاء في لبنان على طاولةٍ واحدة للاتفاق فيما بينهم، ومن دون أحكامٍ مسبقة.

الاستقرار خط أحمر

لا يتردّد الأميركيون من هنا في الحديث عن مصالحةٍ وطنيّة مطلوبة في لبنان، لمواجهة التحديات التي تنتظره، وفي مقدّمها المخاطر الأمنية التي يمثلها تنظيما "داعش" و"جبهة النصرة" المرابضان على حدوده مع سوريا. هم يؤكدون أنّ لبنان هو جزءٌ أساسي من أيّ اتفاقٍ في المنطقة، مشيرين إلى أنّ ما يهمّ الأميركيين بشكلٍ أساسي في هذا السياق هو تعزيز الاستقرار في لبنان وتطوير قدرات المؤسسات الرسمية ولا سيما الأمنية منها، بما فيها المؤسسة العسكرية وقوى الأمن الداخلي.

باختصار، يقول الأميركيّون أنّ الاستقرار اللبناني لا يزال خطاً أحمر وأولوية قصوى بالنسبة للمجتمع الدولي، وهم يتحدّثون عن مساعداتٍ إضافية للجيش ستُقدَّم في المستقبل، مساعداتٌ يعرف القاصي والداني أنّها لن تقدّم أو تؤخّر ما لم يحصّنها اللبنانيون بوحدةٍ وطنيةٍ حقيقيّة هم أحوج ما يكونون إليها، في ضوء التحوّلات الجارية في المنطقة، والتي يبقى الاتفاق النووي ثقلاً أساسياً فيها، شاء من شاء وأبى من أبى...