منذ ثلاثين، استقبلنا الرئيس الكوري كيم إيل سونغ. قدّمنا إليه هدية من حرفيّة جزين اللبنانية . أفهمنا المرافقون، بأن الرئيس يرى بعض الضيوف ولا يستقبل هداياهم، بل تودع كلّها في معرض خاص شعبي هو كناية عن قصر رائع أدهشنا قرميده الكحلي. اللافت في المعرض أنّ الأجنحة الأكثر ضخامةً وإبّهةً هي الروسية والإيرانية والسورية وترفع فيها الصور العملاقة للإمام الخميني والرئيس حافظ الأسد. يومها همست في أذن زوجتي : لا أفهم شيئاً. نحن في القلعة الغامضة الأخيرة المتوترة بين الشرق والغرب القائمة في صمت مريب وديكتاتورية مخيفة على وقع الأوبرا والأناشيد الوطنية. وكان جوابها: ليس من الضروي أن تفهم كلّ شيء.

"نعيش في زمن عجيب حيث القوي ضعيف جرّاء تردّده، والضعيف قوي جرّاء جرأته المتهوّرة".هذا جواب لهنري كيسنجر على سؤآل: هل تتمكّن الصين وأميركا من إجتراح إستراتيجية لكوريا منزوعة السلاح النووي؟ وأضيف الى السؤآل: بعد التفاهم مع إيران، كما أضيف الى الجواب انّ صاحبه هو بسمارك.

سأحاول الفهم، بعد عقودٍ ثلاثة، فأضيء الحاضر بالماضي ، خصوصاً بعدما راح العالم يتطلّع الى هناك، ولأسبابٍ ثلاث:

1- خطف تبادل القصف بين الكوريتين الأسبوع الفائت عين العالم توجّساً من ملامح حربٍ عالمية ثالثة، غالى به العرب. وكلّ ما في الأمر أنّ لغماً إنفجر بجنديين في كوريا الجنوبية التي إتّهمت كوريا الشمالية بالأمرفجاءها ردّ الفعل سريعاً بقصفٍ مدفعي عنيف طالت يون شيون ومكبّرات الصوت المزروعة على الحدود.

2- بعدما توصّلت إيران في تموز الفائت الى إتّفاق مع دول مجموعة ال6+1 عبر مفاوضات طويلة في الملف النووي ، خرجت كوريا الشمالية في الشهرعينه لتعلن أنّها غير مهتمّة بأي علاقة مع العالم على غرار إيران، معتبرةً أنّ النووي لديها هو رادع ضروري ضدّ عدائية أميركا ومعلنةً" إنّنا قوة نووية والقوى النووية لها مصالحها الخاصة".

3- ترتفع أصوات كثيرة معارضة لإيران في الغرب والشرق، تتّهم طهران وكوريا الشمالية بالتعاون القديم الواسع والمتجدّد في مجال السلاح النووي والصواريخ الباليستية، وتشير الى قيام البعثة النووية الكورية بزيارات ثلاث الى طهران في 2015. وتذهب التحليلات الى القول بسياسة التكامل والتعويض المتبادل الملغز بين الدولتين.

مهما صدقت الأسباب وتعدّدت، يفترض بالكتابة عن الكوريتين الشمالية والجنوبية، أن تمرّ بهدوء في مجريين أساسيين قبل المجاري الإيرانية السورية الفرعية:

مجرى موسكو الإلزامي بالمعاني كلّها، في الطريق لزيارة كوريا الشمالية، ومجرى الصين التي تطلّ على ظلالها "الإمبراطورية" من هناك، فتلامس أطرافها الحدودية مع نهاية الزيارة في بلاد الجدّ كيم إيل سونغ التي تعميك لشدّة خضرتها. فالصين حذرة من مخاطر التورط في حروب لا تتحكّم هي بجذورها قبل نتائجها، وهذا يفسّر ما يجمع الصين وأميركا في مجلس الأمن بمطالبة كوريا الشمالية بالتخلّي عن برنامجها النووي لا تقليصه. قد تكون أميركا قد تجاوزت قمتها في العظمة لكنها ترتاح الى الصين معتمدة المركزية منذ توحيدها في العام 221 قبل الميلاد، وهي تنحني إقراراً بسلطات الإمبراطور العليا القديم. لم تكن مجتمعاً تبشيرياً ولم تصدّر نظامها بل كان يأتي إليها المتطفّلون من الغرب فيتوسّعون تثاقفاً Acculturation لا غزواً. وللتذكير، فإنّ الصين تتأهّب للإحتفال في بداية أيلول المقبل بالذكرى السبعين لإنهاء الحرب العالمية الثانية وكلّ كلامٍ عن ثالثتها هو من باب المغالاة والتهويل.

هناك المجرى ال"مقدّس" في كوريا بلد الإلحاد حفّاز اليابان وكوريا الجنوبية على الشهوة النووية. تصل منبع الزيارة أي الحدود مع كوريا الجنوبية "الشقيقة" للتسرّق من هناك بالمناظير الدقيقة على المناورات الأميركية الكورية الجنوبية المتكرّرة ، والإستماع إلى ضوضاء تركة الإنقسام اليومي الحافل بالأغاني الوطنية وتبادل الإتّهامات والإستفزازات عبر مكبرات الصوت الضخمة. مظاهر عاطفية ملفوفة بقساوة الهيبة والرعب لكنها ممهورة بالمرارة والشوق أو الدمع الدفين الذي لا تفصح عنه قسمات الوجوه العسكرية ولا حتّى سحن الأقارب حنيناً الى تاريخ واحد قديم. شجاعة أن ترمي السلام من هناك نحو الأهل في الجنوب:

"هان يونغ ها سيمنيكا" باللغة الكورية. لماذا وصلنا الى هناك؟

في العام 1986، قام سفير كوريا الشمالية في بيروت، بعد عشاءٍ ، بعرض فيلمٍ سياحي عن بلده، وسألني الإنطباع. أجبت: لا تغري الصور العين بقدر الواقع. بعد أسبوعين وصلنا بيونغ يانغ على متن طائرة روسية غطّت وأقلعت على عجل بسبب قصف المطار في بيروت. كانت الزيارة أشبه بمغامرة فكرية وسياسية الى بيونغ يانغ العاصمة الوحيدة في العالم المسكونة يومذاك بشخصٍ أو زعيم واحد هو كيم إيل سونغ ومنه تتفرّع الأمّة. ترتفع ثماثيله وصوره الهائلة في الشوارع والساحات العامّة وإليها أضيف حتماً، في عصر تحطيم التماثيل ، تماثيل أخرى مشابهة لوريثه كيم يونغ أون ثمّ الرئيس الحالي كيم جونغ إيل. قد نتصوّر حقّاً ما يتمتم به الناس عند مرورهم أمامها وحولها مسكونين برهبة التحديق بها.

الناس؟

تراهم هناك عبر السيارة الأوروبية السوداء يشابهون جيوشاً من "النمل البشري" الساعي في الأرض بجلد وعظم ولباس بسيط يجعل الناظر عاجزاً عن التفريق بينهم إذ تختلط عليه الوجوه التي ترافقه أو تعرّف إليها للتشابه الفظيع بينهم أفرادأً/ شعباً ساعياً لإبراز وجه كوريا الخضراء المكتفية. قد يفهم المرء ذلك، بكونها ردّة فعلٍ قويّة على إحراقها وتحويل أميركا أرضها رماداً في الخمسينات.أحادية قاتلة محشورة وغارقة في المناخ الأوبرالي. حتّى الجبال هناك تخالها تغنّي مسكونة بالأصوات الجميلة والعازفات والعازفين للأناشيد حيّةً أو عبر مكبرات الصوت التي تملأ أرضها وتشبع شعبها المصنوع والمنحوت والمهندس. الشعب يغنّي( هل هو يغنّي فعلاً؟) طيلة النهار في المصانع والمزارع والقواعد العسكرية. وعلى خرير نهر "تايدونغ"، وتحت لحظ جبال "بكتو" يغنّي بأنّه الشعب الأكثر سعادة على وجه الأرض. يغنّي مقرفصاً عند الأمسيات في إنتظار الباصات البطيئة أناشيد حماسية "للزوتشية" وهو الاسم للعقيدة الرسمية التي أطلقها كيم ايل-سونغ مزاوجاً فيها بين الشيوعية والاكتفاء الذاتي، ومعلناً الإنسان المرجع المطلق في بناء الأمم والأوطان.

والمستقبل الكوري؟

دعوات متضافرة لمنح هذا الشعب الكوري حريته وفك قوالبه، والحوار مع المجتمع الدولي، وسهرات في البيت الأبيض منذ كارتر حتى أوباما مع اليابان وكوريا الجنوبية حول مثلث من التوجّس. تنفتح زوايا المثلث لطرق كثيرة تتناقش بمستقبل كيم جونغ أون رئيس بلد السلالة الشيوعية الوحيدة الحاكمة في التاريخ مذ تسلّم مفاتيح اللوحات النووية.

* أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه