الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يترك صاحباً له، داخل البلاد وخارجها. بعد نحو قرن على قيام الدولة الحديثة بنظام علماني أرسى ركائزه مصطفى كمال (أتاتورك)، وبعد نحو نصف قرن من محاولات أنقرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يحاول أردوغان إدخال تركيا في مدار أنظمة الحكم السلطوية وتقويض العلمانية والسير باتجاه مشروع إسلامي بقدر ما تسمح له موازين القوى بين الحكم والمعارضة.

أوجه التشابه بين أردوغان وصدام حسين قائمة وإن لم تكن متطابقة. لعل الجامع الأبرز بين الرجلين العداء للأكراد وهوس السلطة، أي سلطة، داخل البلاد أو في أي مكان خارجها. حرب أردوغان المتواصلة ضد الأكراد، أينما حلّوا، تلتقي مع استهداف صدام الأكراد إلى حد الإبادة الجماعية. وبعدما بلغ استبداد صدام درجات عليا، انتقلت طموحاته التوسعية إلى دول الجوار: الحرب مع إيران في 1980 بعد عام على الثورة الإسلامية لاسترجاع أراض عراقية من بلاد فارس ولاحقاً غزو الكويت العربي وضمّه محافظة عراقية. ولم يتراجع صدام إلا بعد الهزيمة العسكرية.

أما أردوغان فانطلق باتجاه العالم العربي، بعد وساطة أثمرت مفاوضات غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل، وسرعان ما تبنّى التوجه الإسلامي، فأيّد الإخوان المسلمين في مصر وسوريا. دعم أردوغان المعارضة السورية وأصبحت اسطنبول عاصمتها السياسية وحوّل المنطقة الحدودية بين تركيا وسوريا ممراً آمناً لأكثر الجهاديين تطرفاً الوافدين من الشرق والغرب. وذهب بعيداً في صدامه مع مصر، التي اتهمت أنقرة بمساندة التنظيمات المتطرفة في سيناء، ما أدى إلى قطع العلاقات الديبلوماسية بين الدولتين. لكن خلافاً لصدام، ظلت علاقات تركيا وإيران مستقرة على رغم انزعاج أنقرة من اتفاق فيينا. صدام حسين نفذ تهديده باجتياح الكويت، بينما لم يتمكن الجيش التركي من دخول سوريا، نظراً إلى تعقيدات الأزمة السورية والمواقف الدولية الممانعة لرغبات أردوغان التوسعية. مشروع المنطقة الآمنة على الحدود التركية ـ السورية قد يكون مدخلاً لتدخل عسكري تركي في سوريا، إلا أن أوراق أردوغان باتت مكشوفة وتلقى معارضة من واشنطن وموسكو وطهران، وإن لأسباب مختلفة.

انتخابات ديموقراطية أوصلت حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في 2002. بدأ أردوغان حكمه بتعطيل النفوذ السياسي للمؤسسة العسكرية بعدما شكلت العمود الفقري للسلطة بجناحيها المدني والعسكري، ودجّن القضاء واستهدف الإعلام ولم يوفر الحلفاء والخصوم. ومن نتائج سياسات الحزب الحاكم تأجيج الشرخ داخل المجتمع التركي مع الأكراد والعلويين.

ساءت العلاقات التركية ــــ الإسرائيلية بعد عقود من التعاون الوثيق لا سيما إثر محاولة فك الحصار الإسرائيلي عن غزة في 2010، وتأزمت علاقات أنقرة مع الحلف الأطلسي والولايات المتحدة وتراجعت إمكانية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ووقع الصدام أخيراً مع «داعش» الذي دعمته أنقرة. الرصيد الشعبي للحزب الحاكم ارتبط بالتحسن الكبير في الأوضاع الاقتصادية التي تدهورت في الأشهر الأخيرة ومعها سعر صرف العملة الوطنية. هكذا انتقلت تركيا من نظرية «صفر مشكلات» التي اعتمدها أردوغان ورئيس الحكومة، وزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو، إلى صفر إنجازات وبسرعة قياسية.

إلا أن التباين بين الحالتين التركية والعراقية يبقى واضح المعالم. استأثر صدام حسين بالسلطة من دون منازع، بينما شهدت تركيا أخيراً انتخابات ديموقراطية حرمت أردوغان من الأكثرية المطلوبة لتعديل الدستور وأظهر الناخبون معارضة لطموحات الرئيس السلطانية. وكان حزب الشعوب الديموقراطي المدعوم من الأكراد سبباً في الانتكاسة. لم يرضخ الرئيس التركي لخيار الأكثرية فسعى إلى انتخابات مبكرة بعد استحالة تشكيل حكومة موالية على أمل أن ينال الأكثرية المطلوبة لتعديل الدستور واعتماد نظام حكم رئاسي. ولهذه الغاية استهدف الجيش التركي أكراد سوريا تحت غطاء التصدي لـ «داعش» لإظهار معارضة أنقرة للإرهاب تجاه الحلفاء الغربيين ولجلب تأييد اليمين القومي لأردوغان في الانتخابات المقبلة، وهي سياسياً بمثابة إعلان حرب على الأكراد. الانتصار الانتخابي قد يأتي على حساب الاستقرار والهزيمة ستكون قاضية على الخاسر.

لعب صدام حسين بالنار فأحرق نفسه والبلاد، إلى أن أصبح هدفاً متاحاً لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش التي ذهبت إلى حد تلفيق رواية وجود أسلحة دمار شامل في العراق. صدام حسين أعطى الذرائع لاستباحة العراق. رجب طيب أردوغان يعطي الذرائع لإدخال تركيا في المجهول.

*نائب واستاذ جامعي