دعوة الرئيس نبيه بري للحوار جاءت على وَقع التحركات الشعبية في الشارع. وقد تكون فكرة إطلاقها اختمَرت قبل هذه التحركات، وأراد توقيتها في ذكرى الإمام موسى الصدر. ولكنّ تزامنها مع الحراك الذي يشكّل الحدث اليوم يمدّ هذه الدعوة بعنصر جديد قد يشكّل عامل ضغط على المتحاورين.

لولا عامل الشارع لكانت الدعوة إلى الحوار لزوم ما لا يلزم، لأنّ لبّ المشكلة اليوم يكمن في الفراغ الرئاسي، ولا مؤشرات إلى نيّات العماد ميشال عون التراجع عن موقفه المتمسّك بترشيحه لهذه الانتخابات، ولا أيضاً عن تراجع «حزب الله» عن دعمه لعون. وبالتالي، يتحوّل الحوار إلى فولكلور إضافي أو مشهدية سياسية لا تقدّم ولا تؤخّر في تقديم حلول عملية للمعضلة الأساسية المتمثّلة بالفراغ الرئاسي.

وعلى رغم أن لا بديل عن الحوار، إلّا أنّ هذا النوع من الحوارات جُرِّب ولم يؤتِ بأيّ نتيجة منذ صيغته الأولى في العام 2006 إلى اليوم، حيث لم يتمّ الالتزام بأيّ بند تمّ التوافق حوله، فضلاً عن أنّ الحوارات الثنائية بين «المستقبل» و«حزب الله» من جهة، و«القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» من جهة أخرى، والتي شكّلت البديل عن الحوار الجامِع، لم تنجح بدورها في إنهاء الفراغ الرئاسي، وإن نجحت في تبريد المناخات المتشنّجة داخل البيئتين الإسلامية والمسيحية، الأمر الذي شكّل مصدر ارتياح لدى كل الأطراف من منطلق الحفاظ على الاستقرار إذا كان متعذراً إعادة تفعيل الحياة السياسية وتنشيطها.

فالاستقرار مضبوط تحت سقف الحوار الثنائي بين الحزب و»المستقبل»، والذي يحظى برعاية سعودية-إيرانية ودولية، وقد أظهرت جملة من التطورات أن لا تراجع عن هذا الحوار، إذ على رغم وصول الانقسام السياسي إلى حدوده القصوى بقي الحوار بينهما خارج إطار المراجعة، بل من ثوابت المرحلة السياسية. وبالتالي، الحوار الجامع لن يضيف شيئاً من هذا القبيل، لأنّ عامل الاستقرار مؤمّن ومتوافق عليه.

وفي موازاة العنصر المُستجدّ المتصِل بالشارع، تسعى أوساط سياسية إلى استكشاف ما إذا كان لدعوة رئيس المجلس كلمة سر إقليمية كانت وراء دعوته في هذه اللحظة السياسية التي جاءت بعد الاتفاق النووي، ودخول طهران في مرحلة جديدة ظهرت بوادرها من خلال مبادرتها لحلّ الأزمة السورية. وبالتالي، عدم استبعاد أن تبادر لبنانياً، خصوصاً أنّ زيارة وزير خارجيتها محمد جواد ظريف تركت انطباعات إيجابية.

وفي هذا السياق بالذات تقاطعت معلومات ديبلوماسية عن وجود مساع جدية لإعادة تحصين الساحة اللبنانية بمجموعة خطوات عملية تبدأ بانتخاب رئيس جديد للجمهورية ولا تنتهي بالذهاب نحو انتخابات نيابية على أساس قانون جديد للانتخابات.

وكشفت المعلومات عن التقاطها إشارات إيرانية تتصِل بنيّات الأخيرة توجيه رسالة إيجابية للسعودية والولايات المتحدة الأميركية بأنها حريصة على شراكة حقيقية في المنطقة تحت عنوان الاستقرار.

وقد ذرعَت سرعة تجاوب الرئيس سعد الحريري مع مبادرة بري الشكوك حول احتمال وجود مناخ سعودي يتقاطع مع الإشارات الإقليمية للدفع نحو خَلق واقع سياسي جديد في البلاد، خصوصاً أنّ معلومات كانت تحدثت عن وجود التزام بين مكوّنات أساسية داخل 14 آذار بعدم اتخاذ موقف متسرّع من المبادرة المتوقعة لرئيس المجلس قبل درسها والتقدّم بموقف موحّد ومشترك.

ويبدو انّ انكباب الدكتور سمير جعجع على المبادرة ورفضه إطلاق موقف سلبي أو إيجابي منها، يتصِل بمحاولة إجراء مروحة اتصالات دولية

وإقليمية لمعرفة ما إذا هناك من تبدّل في الموقف الغربي-الإقليمي ومدى استعداده للدفع نحو انتخاب رئيس جديد، وإلّا «القوات» التي كانت أوّل مَن بادر إلى الانسحاب من الحوار لرفضها منطق الحوار للحوار، كما رفضها أن تقدّم غطاء للقوى المعطّلة لقرار الدولة في لبنان، كانت قد سارعت إلى إعلان رفضها هذه المبادرة من منطلق أنّ جوهر الأزمة السياسية اليوم يتصِل بالفراغ الرئاسي.

وطالما أن لا مؤشرات إلى تحقيق خرق على هذا المستوى، فلا لزوم لحوار يؤدي إلى مزيد من شرعنة حالة الفراغ، أو الالتفاف على مطلب الانتخابات الرئاسية عبر وضعه جانباً نتيجة تعذّر التوافق حوله، والذهاب نحو تفعيل مجلس النواب والوزراء بمعزل عن الانتخابات الرئاسية.

وقالت أوساط مطلعة إنّ مبادرة بري التي تزامنت بين حدثين، إقليمي تمثّل بالنووي، ومحلي يتصِل بتحرّك الشارع، قد تكون آخر فرصة للبننة الملف الرئاسي قبل دفع الأزمة السياسية إلى حافة الهاوية التي تقود إلى استدعاء القيادات اللبنانية إلى مؤتمر عاجل برعاية دولية-إقليمية لإعادة إنتاج السلطة وتثبيت دعائم الاستقرار بغية وضع لبنان على سكّة انتظار مسار التطورات الإقليمية.

وتحدثت الأوساط عن وجود مناخ غربي-عربي يريد دعم الدور الذي يَتولاه الرئيس بري وجَعله الحاضنة للحلول اللبنانية، وعَزت هذا التوجّه إلى تلقّف عواصم القرار إيجاباً عدم مشاركة حركة «أمل» في الحرب السورية، ورفض رئيسها الانخراط في مواجهات سياسية مع السعودية على خلفية الأحداث اليمنية، بل حرصه على أفضل العلاقات مع الدول الخليجية، ومشاركته في جلسات انتخاب الرئيس، ودفاعه عن اتفاق الطائف والحكومة والحوار، ورَفضه مجاراة «حزب الله» بدعم العماد عون.

وفي موازاة كل ذلك، هناك سؤال أساسي يطرح نفسه: هل ستنجح هيئة الحوار الجديدة في إنهاء حالة الفراغ الرئاسي، لأنّ المواضيع الأخرى تُحلّ تلقائياً بمجرد انتخاب رئيس جديد؟ فالهدف الأساس من الحوار يجب أن يكون فتح أبواب قصر بعبدا، وإلّا لا لزوم لمشهدية سياسية تنعكس سلباً على أصحابها وتقدّم مادة إضافية أو دليلاً إضافياً للقوى المتحركة في الشارع بأنّ الطبقة السياسية عاجزة عن فِعل أي شيء.

فالدعوة للحوار اليوم على أثر الحراك في الشارع المُندّد بالطبقة السياسية يحمِّل القوى المتحاورة مسؤولية إضافية من أجل الوصول إلى نتائج إيجابية تسحب من يد المتظاهرين ورقة أساسية مفادها أنّ مطالباتهم هي في غير محلّها، وأنّ هذه القوى قادرة على اجتراح الحلول للأزمات الرئاسية والنيابية والحكومية، وخلاف ذلك يقدّم أكبر هدية لهؤلاء المتظاهرين بأنّ الشعارات التي رفعها كانت في محلها.

ويبقى السؤال: هل ضَغط الشارع، والذي يشكّل العامل الجديد محلياً في موازاة الاتفاق النووي إقليمياً، سيدفع إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية؟ لا شك أنّ الإجابة ستقدّمها تطورات الأسابيع المقبلة.