أنت لا تعرفني، ولكنني أنا أعرفك جيداً وأتابعك على مدار السنين والأيام، نشأتُ على محبتك وعلى صون كرامتك لأنها كرامتي، والحرص على مستقبلك لأنه مستقبلي ومستقبل أطفالي. اقتفيتُ أثر خطاك مع ابتهال لله أن يُسدّد هذه الخطى، فعبرتُ الجسور والبلدان وتحديتُ الجغرافيا والتاريخ كي أبقى معك بعقلي وقلبي وروحي. سرتُ على خطاك من المسجد الأقصى إلى الحرم الابراهيمي الشريف إلى كنيسة القيامة، إلى كلّ منزل اضطررت أن تهدمه بيديك اللتين عشقتا بناءه، ولكنّ الاحتلال والظلم والقهر فرض عليك أن تمزج دموعك الحارّة بالتراب الذي تعشق. وكنتُ أُسجّل في كلّ هذه المفاصل تجاهل الكثيرين لمعاناتك وألمك ومصيرك، ظناً منهم أنهم في منأى عن كلّ ما يطالك.

على مدى خمسة عشر عام أتابعك وأسجّل نظرات محمد الدرّة الباحثة عن منقذ من وراء حجرة لم تحميه من رصاص الغدر، وكنت أبحث عن سبل لرفع الظلم عنك وإذ بالظلم يتشظّى ليضرب جذور تاريخك، ويطال كلّ من تحبّ وتعشق، ويهدّد كلّ من غرسته أملاً هنا أو هناك. إلى أين أتبعك اليوم، إلى قوارب الموت، أم قطارات التهجير، أم السير الذليل في البراري والغابات بحثاً عن وطن؟ لا أستطيع أن أصلك ويد الغدر اغتالتك، وأنت عاشق التاريخ والتراب، وقد أمضيت عمرك تدرس الرُّقم والحجرة والقوس والمدفن، وتسجّل لأبنائك عمق هذه الحضارة الفريدة وتبحث عيناك عن السبب. لماذا كلّ هذا القهر، ولماذا كلّ هذه المعاناة، ولماذا كلّ هذا الظلم الذي فاق حجمه وفاقت أبعاده كلّ محاولات التوصيف والتّوثيق؟ سؤالك يؤرّقني منذ سنين وأنا في بحث مستمرّ عن جواب ما.

مؤخراً، ومن خلال متابعة لحوارات مع القائمين عليك، بينما كنت أفكّر بك، كالمعتاد، بك أنت، بهمومك الثقيلة الملقاة على عاتقك، رأيت ضوءاً يقودني إلى أصل معاناتك وجذر إرهاقك وإذلالك، رأيت ضوءاً يقودني إلى الحلقة المفقودة التي كانت العامل الأهمّ في كلّ ما تعرّضت وتتعرّض له اليوم وغداً وبعد غد.

أنت في أرضك تزرعها وتسقيها كلّ صباح، وفي معملك وفي مدرستك وفي زنزانتك تقاوم، وهؤلاء الذين يجب أن يكونوا منشغلين بآهاتك وطموحاتك وخفقات قلبك، يتجادلون في كروية الأرض، وفي عدد الأقمار المحيطة بالمريخ وفي أيّ شيء ما عدا المشفى الذي تحتاج إليه ليعالج جراحك، والبيت الذي تطمح إليك ليستر أبناءك، والكرامة التي تتوق أن تستعيدها بعد أن دنّسها احتلال وإرهاب وعدوان وغزو. اكتشفت أنهم لا يرونك أبداً، ولا يرون جوهر مصلحتهم هم، ولا يرون استراتيجيا ما يحدث، لأنهم لو فعلوا ذلك لعلموا أنّ أوّل ما يجب عليهم فعله هو أن يكونوا صوتاً واحداً وجسداً واحداً وقلباً واحداً في وجه الظالم والمعتدي. أوَ لم يفكّروا يوماً أنّ من يستهدفك ويستهدفهم طبعاً له اسم واحد ولون واحد وصوت واحد، ولا يُشتّت قواه في غياهب الفرقة والانقسام؟ أوَ لم يكتشفوا إلى حدّ اليوم أنّ أولى الأولويات هي الاتفاق على الجوهر وتوحيد الصفوف، وأنك أنتَ أنتَ البوصلة، وأنّ كلَ ما يخدمك هو صحيح وكلّ ما يبتعد عن مصلحتك هو خطأ؟ أوَ لم يكتشفوا، بعد كلّ هذه المعاناة، أنّ كلّ ما يوحدهم هو صحيح وكلّ ما يفرّقهم هو خطأ؟ أوَ لم يقرؤوا تاريخ الأبورجينز والهنود الحمر وشعب الأنكا ليعلموا أن لا فرق بين هذا وذاك في أعين التاريخ، وأنهم جميعاً واحد، شاؤوا أم أبوا، وأنّ قاربهم هو هو ذاته مهما حاولوا تمييز مقاعد ذات درجات في داخله؟ على الأقل عرفتُ اليوم جوهر المسألة، أنت بحاجة لمن يحملك في قلبه وضميره ويبني كلّ خططه واستراتيجياته من أجلك وحدك فقط وبإدراك عميق أنهم عابرون وأنّ عملهم من أجلك أنت هو الباقي. أنتَ بحاجةٍ إلى غاندي القرن الواحد والعشرين زهداً وإيماناً ومتابعةً وثقةً بالمستقبل.