حين كتب الصحافي الشيوعي الأميركي جون ريد كتابَه الشهير «عشرة أيام هزّت العالم» واصفاً بدقة يوميات الثورة البولشفية التي قادها لينين، أَبرز كيف نجح البلاشفة في إسقاط نظام القياصرة الراسخ الجذور في روسيا وأطلق ملامح عالم جديد.

بعض المتحمسين للحراك الشعبي الذي بدأ السبت في 22 آب المنصرم وبلغ ذروته يوم السبت الماضي متوعِداً بيوم حاسم اليوم (أول ايلول الجاري) يسكنهم حلمٌ أن يحققوا في عشرة أيام ما فعله لينين في عشرة أيام.

طبعاً ليس كلُّ مَن تجاوَب مع حملة «​طلعت ريحتكم​» والمنظمات المماثلة كان يتجاوب انطلاقاً من هذه النظرة الثورية، بل كان محرّكه مطالب بسيطة تُعتبر طبيعية جداً في كلّ بلاد العالم.

غيرَ أنّ المتخوّفين من هذا الحراك لا يخفون شكوكَهم في أن يقودَ هذا الحراك، بشعارات من مثل «الشعب يريد إسقاط النظام»، لبنان بأسره الى مصير دول بدأ فيها الحراكُ سلمياً لينتهيَ دموياً كما نرى في ساحاتها.

لكنّ المتفهّمين لمبرّرات هذا الحراك يحذِّرون في الوقت نفسه من أنّ إدارة الظهر لمطالبه المشروعة هي التي قد تدفع بلبنان الى المصير الذي اندفعت اليه الدولُ الأُخرى حين ظنّ القيّمون عليها أنّ لديهم من القوة ما يكفي للإستهتار بمطالب الناس.

ويقول هؤلاء إنّ في البلاد ملايين الجائعين، من لبنانيين وغير لبنانيين، ينتظرون لحظة فوضى داخلية لكي ينقضّوا على الدور والقصور، وعلى الممتلكات العامة والخاصة، وعلى المؤسسات والشركات، ليغنموا قليلاً من الاشياء التي حُرموا منها، ولكي يوفّروا بثمنها ما يكفيهم من غذاء ودواء لأشهر عدة.

ويضيف هؤلاء: «لقد حذّر لبنانيون كبار، وعلى مدى عقود طويلة، من ثورة الجياع التي تأكل الأخضر واليابس وينفلت فيها «الملقّ» من أيدي الجميع مسؤولين ومتظاهرين، فالغضبُ الذي عبّر عنه بعضُ الشبان في تظاهرات الأسبوع الفائت هو عيّنة بسيطة من غضب يملأ الأحياءَ الفقيرة من أقاصي عكار الى أقاصي الجنوب ومن الأحياء المظلومة في المدن الساحلية الى البقاع المحروم من الحدّ الأدنى من مقوّمات العَيْش الكريم.

من هنا فإنّ العقلاء يتوجهون الى الطرفين المتواجهَين في هذا الحراك: الحكومة والمحتجين، فيدعون المحتجين الى تحديد مطالب معقولة تشكل إختراقاً في شبكة الفساد المهيمنة على البلاد، فيما المطلوب من الحكومة أن تلاقي المحتجين في منتصف الطريق فتُلبّي المعقول والفوري من المطالب وتقدم خريطة طريق لتحقيق المطالب الأخرى.

فما الذي يمنع الحكومة مثلاً من أن تحيل الى القضاء كلّ ملفات الفساد المعروفة والمخفية بما فيها تقارير ديوان المحاسبة المجمَدة منذ سنوات طويلة، وتدعو القضاء الى تطبيق قانون «من أين لك هذا؟» فيتلمّس الفاسدون رؤوسهم ويتنفس المحتجون الصعداء؟

ولماذا لا تعلن الحكومة فصلَ وزارة الداخلية عن وزارة البلديات، فتختصّ الأولى بالأمن والنظام، وتختصّ الثانية بالإنماء والأمور المعيشية، كذلك تختصّ وزارة الداخلية بتأمين المركزية السياسية، فيما تؤمّن وزارة البلديات اللامركزية الإدارية، فيتحقق مطلبٌ أقرّه «اتفاق الطائف» ويتحمّس له كثيرون من اللبنانيين من دون أن يكون مقدِّمة لفيدرالية هي أقصر الطرق الى تقسيم البلاد.

وإذا كان مبرِّرُ دمج هاتين الوزارتين هو لتخفيض عدد الوزراء، فلتُدمج وزارة البلديات بوزارة البيئة، وهذا دمجٌ منطقي، لأنّ المهمات البيئية هي في أكثرها مهمات بلدية.

بل ما الذي يمنع الحكومة من محاسبة مَن تسبّب بالإفراط في استخدام القوة ضدّ المحتجين، وهو إفراط اقرّ به رئيسُ الحكومة ووزيرُ الداخلية وعددٌ من الزعماء والسياسيين؟

ولماذا لا تشكل الحكومة مثلاً لجنة من أعضائها تمثل كلّ القوى السياسية المشارِكة فيها لصَوْغ قانون انتخاب عادل يكون فيه للتمثيل النسبي حيّزٌ كبير حتى لا تُحرَم فئات واسعة من المجتمع كالتي تتظاهر في الشارع اليوم، من المشارَكة في إدارة شؤون البلاد؟

وأما مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري للحوار التي حدَد لها الأيام العشرة الاولى من أيلول الجاري موعداً لتنفيذها، فهي بلا شك مبادرة يراوح مفعولُها بين الحدّ من المخاطر التي تهدِّد البلاد وبين الاتفاق على صِيَغ دستورية وسياسية تؤمّن إنقاذ البلاد.

فطاولة الحوار التي دعا اليها بري ما هي إلا توسيع للحوار الجاري بين تيار «المستقبل» وحزب الله الذي أرخى بظلاله الإيجابية على الساحة الإسلامية، فيما الحوار الموَسَع قد يُرخي بظلاله على الساحة الوطنية عموماً، وعلى المسيحية خصوصاً، لا سيما أنّ جدول أعماله يحمل إجابات على بعض الهواجس المسيحية في البلاد.

ربما كان مطلوباً من بري أن يُطلق مبادرة أُخرى، أو أن يسعى اليها، وهي مبادرة حوار بين الحكومة من جهة وبين الجمعيات والهيئات التي تقود الاحتجاجات في الشارع من جهة ثانية، فيكون عنوانُ الحوار الأول سياسياً، وعنوانُ الحوار الثاني إجتماعياً، فلا تطغى السياسة على الهموم الاجتماعية، ولا تُستخدَم المطالب الاجتماعية لتحقيق أغراض سياسية.

فهل يستطيع لبنان بين أيام الاحتجاج العشرة التي تنتهي اليوم، وبين أيام الحوار العشرة التي تبدأ اليوم، إقفال الباب أمام تطورات مماثلة لما شهدته دولٌ مجاورة، وأن يَحول دون قيام ثورة جياع حقيقية يخرج فيها الجياع من بيوتهم مردِّدين قول الصحابي ابي ذر الغفاري: «أعجب لمَن لا يجد القوتَ في بيته كيف لا يخرج شاهراً سيفَه على الناس»؟