على رغم الملاحظات المتعددة التي سجلت على تحرك يوم السبت في هذا الاتجاه أو ذاك، فإنّ هناك حقيقة ثابثة لا يمكن أحداً أن يخفيها هي أنّ مشهد عشرات الآلاف الذين تحركوا من وزارة الداخلية الى ساحة الشهداء أدّى إلى إحداث رعب وارتباك لدى الطبقة السياسية الطائفية إلى حدّ جعل هذه الطبقة تقسم إلى فئات ثلاث.

1- فئة الصمت والانكفاء عن المسرح الإعلامي.

2- فئة الإقرار بالمسؤولية، ولكن من دون وضع إطار للتصحيح فيكون إقرارها بمثابة الاحتواء والاستيعاب.

3- فئة الاستخفاف بعقول الناس التي قفزت فوق مسؤوليتها المباشرة عن كلّ ما هو قائم وكانت في بياناتها تزايد على المتظاهرين ما أثار الدهشة والاستغراب.

بين هذه الفئات الثلاث جاءت مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري من النبطية في الذكرى الـ37 لتغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه، التي ما كان ليطرحها لو لم يكن أخذ الضوء الأخضر من القوى السياسية المدعوّة الى طاولة الحوار. فمنذ فترة والرئيس بري يبحث بحسب مصادره عن معالجة للجمود الذي يخيّم على الحياة السياسية، ويدرك أنّ الأمور وصلت إلى درجة من الانسداد الخطير، ويذكر دائماً في مجالسه أنّ الشعب محق في أن يغضب ويعبّر عن غضبه، ولو أنّ ما يحصل في لبنان حصل في دول أخرى لكانت نشبت ثورة ضدّ الوضع القائم.

انقسم المراقبون حول تفسير وتقييم المبادرة. رأى البعض أنها محاولة من قبل السلطة السياسية المربكة التي اضطرت إلى البحث عن مخرج لمآزقها، وفئة أخرى تداولت القول انها مناورة من السلطة لتضييع الوقت، وقلة قالوا إنها قد تفتح كوة في الحائط المسدود وتشكل مناسبة للبحث الجدي في المآزق، لا سيما أنّ رئيس المجلس يعلم جيداً التأثيرات الكبيرة للأوضاع الإقليمية على الساحة اللبنانية، لكنه يعتبر في الوقت نفسه انّ الحوار الدائر بين حزب الله وتيار المستقبل حقق أمراً ايجابياً للغاية وهو الخطط الأمنية الداخلية وتخفيف الاحتقان، ويمكن ان تكون المبادرة هي الخيار في وقت سدّت كلّ الخيارات.

انّ إطلاق الحوار من شأنه حتى في حال تعذر الوصول الى معالجات للملفات القائمة أن يشكل إطاراً للبحث في الأزمات العالقة في وقت لم تبحث هذه القوى مع بعضها بعضاً هذه الأزمات.

وقد يشكل هذا الحوار إطاراً مناسباً للردّ على مطالب الشارع بمعنى انه سيبحث في قانون الانتخاب واللامركزية الادارية وعمل الحكومة. صحيح أنّ كلّ مكون من المكونات التي ستشارك في الحوار لديه رؤية مختلفة، غير أنّ حركة الشارع ستضغط باتجاه قانون انتخابي نسبي، ولن يكون المتحاورون حول الطاولة بمنأى عن الأسئلة التي أطلقها الشارع حتى لو لم تكن المبادرة الحوارية أتت كردّ فعل على الانتفاضة الشعبية.

يؤكد مصدر مطلع في تكتل التغيير والإصلاح لـ"البناء" "أنّ أحداً لا يمكنه أن يكون ضدّ مبدأ الحوار لأننا بلد حوار بامتياز، طالما أننا مكونات عدة يحرص دستورنا على عيشها المشترك قبل أيّ اعتبار آخر، إلا أنّ هذا لا يعني انّ عِبَر الحوار الماضية كانت منتجة، سواء حوار 2006 الذي قاده الرئيس بري والذي أدّى إلى ما أدّى إليه من انقسام حادّ، أو حوار 2012 الذي أدّى إلى إعلان النأي الملتبس. وينتظر تكتل التغيير والإصلاح الدعوة وجدول الاعمال الذي أعلن عن عناوينه الرئيس بري في كلمة النبطية بمناسبة عزيزة جداً على اللبنانيين والمتعلقة بتغييب الإمام الصدر ورفيقيه، فالعناوين، كما يقول المصدر المطلع في "التغيير والإصلاح"، فيها عوامل جذب على الأقلّ في الظاهر، وتحديداً قانون الانتخاب واللامركزية الإدارية واستعادة الجنسية للمتحدّرين من أصل لبناني، إلا انّ هذه المواضيع هي مشاريع واقتراحات قوانين موجودة في مجلس النواب أو لجانه المشتركة. أما تفعيل الحكومة ومجلس النواب فرهن بالعودة الى الدستور الذي يُرجع اليه في عمل كلّ من هاتين السلطتين حال خلوّ سدة الرئاسة. إن الحكومة كانت تعمل وفق الدستور ومنهجية متوافقة، إلى أن تمّ الانقلاب عليها من رئيسها والفريق الأكثري من دون إعلان الأسباب الكامنة وراء الانقلاب. اما في مجلس النواب فتشريع الضرورة هو الحلّ لولوج المجلس، ويبقى تحديد جدول أعمال الجلسة المتوافق عليه والضرورة.

أما البند المتعلق والمتمثل بانتخاب الرئيس فالآلية الدستورية، كما يقول المصدر، واضحة لجهة نصاب الحضور وأكثرية التصويت، إلا أنه يبقى أن يتوافق اختيار رئيس البلاد مع المعايير الميثاقية التي تؤدّي في النتيجة إلى حكم الأقوياء في مكوناتهم تحت عنوان التشاركية الوطنية.

يظنّ تكتل التغيير والإصلاح، كما يقول المصدر، خيراً ولا يسأل عن الخبر، طالما أنّ الأقطاب المسيحيين يعون جيداً موقع الرئاسة وضرورة تحصينه ودوره، كي تتأمن للمكون الذي ينتمي اليه الرئيس أفضل ظروف التشاركية من ضمن صيغة 1943 المكرسة في وثيقة الوفاق الوطني. ويأمل التكتل بألا يكون هذا البند الذي هو البند الأول في التراتبية على ما ظهر في كلام الرئيس بري ناسفاً سائر البنود، بل أن يكون مدخلاً طبيعياً تندرج في سياقه معالجة سائر البنود والتي أهمها قانون الانتخاب وفق القانون النسبي الذي تتوافر معه المناصفة الحقيقية بين المسيحيين والمسلمين.

ومهما كان من أمر، فإنّ مصادر مطلعة ترى أنه من المبكر القول بإمكانية حلّ المأزق اللبناني اليوم لأنّ لبنان يرتبط عضوياً بملفات المنطقة ولا يبدو أنّ مرحلة الحلول قد حلّت. وعلى ضوء ذلك يكون من المجدي الانتظار قليلاً حتى نعرف الاتجاه الذي ستسلكه الأمور على ضوء هذه المبادرة. ويجب أن يتذكر الجميع أنّ المرحلة ليست مرحلة التسويات العميقة لبنانياً، وأنّ أقصى ما يطمح اليه هو احتواء التناقضات والبحث عن التسويات الجزئية.