لا يمكن تجاهل التحركات الشعبية الحاصلة احتجاجاً على الأوضاع السيئة في لبنان. بغض النظر عن اعداد المتظاهرين ومهما بلغ حجم وطريقة الاعتراض ونوعية المحتجين والمستثمرين وأهداف المنظمين والممولين والمحرضين، هناك ازمة اجتماعية تفرض التدقيق والقراءة والمعالجة.

اللبنانيون الذين يفتقدون رئيساً لجمهوريتهم، يعيشون الفراغ المؤسساتي. برلمان يتقاضى فيه النواب رواتبهم من دون ممارسة مهامهم في التشريع والمحاسبة او الحضور الى المجلس. بعض النواب لم يزر ساحة النجمة منذ ست سنوات. الحكومة معطّلة، لا مقررات تلبي مصالح الناس. مؤسسة كهرباء مأزومة، لا تنقيب عن الغاز والنفط من اجل استثمار يريح الاقتصاد اللبناني وجيوب المواطنين. لا مساءلة ولا محاسبة ولا تصفية للحسابات المالية، ولا شيء مستحيل، فالابراء رهن التسويات. لا حلول سياسية والأزمات مفتوحة. ​النفايات​ ضاقت بها الشوارع بينما سياسيون يتسابقون لتوزيع الحصص والانحياز العلني لشركاتهم ووضع الشروط والقيود وإقفال او منع ايجاد المطامر.

وتسألون: لماذا يحتج الناس؟ ولماذا ترتفع الأصوات؟

بلد يغرق بالفساد المغطى بالمحسوبيات المحمية بالطائفية. كم دفع اللبنانيون منذ سنوات من اجل حل ازمة الكهرباء؟ في سوريا رغم الحرب تغذية التيار الكهربائي مثلا، افضل مما هي عليه في لبنان. كم يدفع الناس ضرائب عادية وعلى القيمة المضافة مقابل لا شيء: أدنى درجات الخدمات.

الحشد في وسط بيروت ليس وليد قوة "اليسار المتجدد" ولا "​المجتمع المدني​"، ولا بسبب التمويل السرّي الذي يقوم به احد رؤساء الحكومات السابقين الذي يرغب باستهداف خصومه بقوة الاحتجاجات وتحت ستار المطالب الشعبية. قد تكون الواجهة يسارية او المنظّمون يرتبطون بسفارات أجنبية. لكن الحشد هو من الشعب الذي وصل الى مرحلة القرف. هو اتى من احياء البؤس في العاصمة وضواحيها، ومن الاحياء الراقية أيضاً التي لا تسعفها أموالها ولا قدراتها المادية في رفع النفايات من امام منازلها الثمينة.

جمع التحرك كل الطبقات الاجتماعية، لكنه فشل حتى الان بأن يكون حجمه على قدر المطالب التي يرفعها. كان يجب ان يضم مئات الآلاف، لانه غير محسوب على حزب او تيار او فئة او طائفة او منطقة. قد يوظف بعض السياسيين او المنظمات حجم الحشد لمحاولة توجيه المتظاهرين واعتبارهم ورقة ضغط فيما يخص انتخاب رئيس للجمهورية، لكن هذه الحسابات هنا في قمة الغباء.

هذا الحشد لن ينتج تيارا ولا زعيما. ولا هو مطواعاً في يد أحد. جمعتهم المصيبة فقط، لكن النظام اللبناني المعقّد هو طائفي-مذهبي، لا يتيح الفرص امام انتاج حالات وطنية عابرة للطوائف.

من هنا فإن بداية "الثورة" الحقيقية المنتجة وطنياً تبدأ بإسقاط النظام اللبناني الحالي بهدوء والذهاب نحو ​الدولة المدنية​. الامر ليس صعباً. اذا كان الشعب يريد الخلاص لا بد ان يبدأ بتصويب شعاراته وأهدافه. دون ذلك مضيعة للوقت. لا يكفي الحديث عن الفاسدين او وضع كل اهل السلطة والحكم ضمن سلة واحدة. في تلك الاتهامات سوء تقدير سياسي للتكتلات في لبنان.

لا يجب ان يسكر المنظمون بنشوة الحشود. تلك محطات عابرة. فلندقق قليلاً: اكثر من نصف المحتجين على الاقل ينتمون او يتعاطفون مع أحزاب وتوجهات سياسية استراتيجية معينة. هم ضد الجمود الحكومي وتعطيل المؤسسات ويعانون من الأزمات الاجتماعية ويطالبون بحل ازمة النفايات، ولكن حين تناقشهم بالملفات السياسية الكبرى سيتموضعون في خياراتهم الاساسية.

لا يستطيع منظّم يساري او نقابي او من المجتمع المدني او فنان او إعلامي إبعادهم عن تلك الخيارات او الباسهم الثوب المفصّل على غير قياسهم. كل منهم في واد... اين سيكون رعاة الاحتجاج عندها؟

نوعية التحرك تفرض التواضع والعقلانية. الشعارات الجاذبة واستخدام عناوين الأزمات الاجتماعية المتزايدة لن تدوم طويلاً ولن تكوّن في لبنان حزباً خاصاً، طالما نظامنا قائم على الطائفية، والنواب يفرضهم ال​قانون الانتخاب​ي غير العادل. هنا تكمن حكاية النضال والاصلاح والهدف الوطني النبيل.