يسجل لفريق 14 آذار ذكاءه بعدم تأييد مطالبة المتظاهرين بإسقاط حكومة الرئيس تمام سلام واعتبار الأجهزة الأمنية خطاً أحمر والحفاظ على عقد الحكومة متماسكاً، باعتبارها آخر المؤسسات دستورية الفاعلة في البلاد، في غياب رئيس الجمهورية، وتمسك سلام بتحمّل مسؤولياته كما وزير البيئة محمد المشنوق وباقي الأعضاء.

المفارقة أنه لم يمض وقت طويل كي ينسى اللبنانيون أنّ الرئيس سلام كان منذ أقلّ من شهر يلوّح باستقالة حكومته وكان قاب قوسين أو أدنى من إعلان الاستقالة حتى بات على باقي الفرقاء مسؤولية إقناعه بالعدول عما يفكر فيه، وكان أبرز الداعين إلى ثبات الحكومة واستقرارها، كضرورة وحاجة للمرحلة، أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، وأيّ خيار بالاستقالة لم يكن حينها إلا مناورة تبيّن لاحقاً أنها إحدى وسائل الضغط التي سرعان ما فشلت أو حتى لم تحدث صدى، لكنها أشرت إلى شيء أساسي وهو النوايا السعودية للتصعيد في لبنان، لاستخدامه ساحة تجميع نقاط ضمن أماكن نفوذها في المنطقة، كأول المتضرّرين من الاتفاق النووي.

اليوم يتحرك الشارع ويطالب الشباب اللبناني بحقوقه، ويدعو الحكومة إلى الاستقالة، ما يعني أنّ الضغوط باتت أكثر وأعمق على سلام وهذه المرة يمكن أن تسقط في الشارع دماء دماء شباب أبرياء قد لا يتحملها سلام، لكنه بالرغم من ذلك صامد ويقول: لن أتخلى عن مسؤولياتي.

الحراك لم ينفجر عفوياً، بل بسبب أزمة النفايات التي لم تنفجر عفوياً، بدورها، بل بسبب قرار الرئيس سعد الحريري عدم التمديد لسوكلين أو استبدالها بحلّ آخر مبكر، الأمر الذي كان من المفترض أن يحلّ قبل استحقاقه بشهور، لكنه بقي ملفاً عالقاً حتى جاءت ساعة الصفر وشكل ضغطاً على الشعب الذي لم يعد يحتمل هذا الواقع فنزل إلى الشارع، لكنّ سياسة الضغط عليه لعبها فريق 14 آذار برأس حربته سعد الحريري بذكاء واضح.

نزل الشباب إلى الشارع بضغط مدروس، أخذوا إليه فامتدت يد العون لهم وكانت الشعارات واللوحات الإعلانية جاهزة للمرحلة «طلعت ريحتكم»، شعار يليق بالمرحلة وتتفرغ قناتان كبيرتا التأثير في لبنان لتغطية الحدث، كان اللعب أيضاً من خلالهما شديد الذكاء.

قناة «أل بي سي» و«الجديد» ليستا قناتين تابعتين لـ 14 آذار، وهما القناتان الموكلتان تنفيذ المشروع، بينما لم تنخرط قناتا «المستقبل» و«أم تي في» التابعتان لـ 14 آذار في التغطية بالشكل الواسع النطاق بين إالغاء برامج وفتح هواء على مدار الساعة أوحتى ملء الشاشة بإعلانات وشعارات التغيير.

لعبة 14 آذار الذكية في ثورة شبيهة ومصغرة لثورة 2005، ليست سوى ثورة محضّرة في وجه حزب الله، كأحد أهم أوجه الانقضاض السعودي عليه للضغط السياسي فقط وليس لهدف أبعد من هذا. فالسعودية تدرك أنها غير قادرة عليه، ومشهد السابع من أيار 2008 لا يزال في البال.

تعرف السعودية أنها قادرة على توظيف التصعيد في الشارع بعناوين لا تشبهها وبشباب لا تملكهم ولا يؤيدونها، وهي قادرة على استثمار وقيادة حراكهم من وراء ألف ستار وستار من أجل المحافظة على نفوذها مع بداية فجر التسويات التي فرضها الاتفاق الغربي مع طهران. لا محالة ولا طريق إلا صرف رصيد النفوذ في الاستحقاق الرئاسي لفرض خسارة الخصم اللدود وهو حزب الله ومرشحه العماد ميشال عون بجعل الضغط يذهب لرئيس من خارج اللعبة السياسية الراهنة.

تدرك السعودية اليوم أنّ فرص مجيء رئيس يشبه الرئيس السابق ميشال سليمان أصبح صعباً، بعدما أصبح حزب الله أكثر وعياً من الذين ينقلبون على شعاراتهم واتفاقاتهم معه، وهو الذي وافق على التصويت لسليمان رئيساً للجمهورية في زمن «الجيش والشعب والمقاومة» كمعادلة حاول حزب الله، ومعه سليمان بادئ ذي بدء الحفاظ عليها، لكنه، أي سليمان، انقلب عليها منذ اندلاع الأزمة السورية، ظناً منه أنّ نفوذ حزب الله سيتلاشى حكماً وأنّ الرئيس السوري بشار الأسد سيسقط، لا محالة، هذا ما لقنه السعوديون لحلفائهم منذ 5 سنوات.

اليوم، لا يزال الرئيس السوري بشار الأسد في قصره والحديث عن حلّ سياسي في وجوده أكثر ما تتداوله الكواليس الديبلوماسية الغربية، وبالتالي فإنّ قدرة سيطرة السعودية على المشهد في لبنان باتت أصعب، وباتت معركة رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش أبرز مسؤولياتها.

وحده العماد جان قهوجي قادر على تلبية تطلعات السعودية، كونه مرشح يطيح بقوة الشارع بمرشح حزب الله فتتحسن صورة تقليص القبضة السعودية على لبنان وبالتالي يتوجب دعم قهوجي بالضغط على حزب الله وباقي الفرقاء لانتخابه رئيساً، لكن من دون استفزاز حزب الله، كي لا يؤخذ إلى الحسم قبل التسويات فكانت الخطة الناعمة باستهداف حزب الله عبر شباب يدعون إلى إسقاط النظام ويشتمون الزعماء جميعاً وأهمهم السيد نصرالله، ضمن خطة تشعر حزب الله بأنه لم يعد مرغوباً به كالسابق، وأنّ المياه تجري بسرعة من تحته وأنه بات عليه الدخول والانصياع للتسويات التي سيساعد فيها الأميركي بلا شك.

المعركة تخاض على أكثر من صعيد، وليس صدفة أنّ صحيفة «الشرق الأوسط» خرجت لتقول إنّ «سيناريو السيسي»، أي انتخاب قائد الجيش جان قهوجي رئيساً للبنان قد حسم بقرار دولي وبات شبه مؤكد.