- لا نقاش حول صدق الناس وحجم الغضب المشروع والمحق، ولا نقاش على فساد وتفاهة واهتراء وتآكل النظام الطائفي ورموزه، النقاش هو في الوقائع لاستكشاف المسار الذي ستذهب إليه الأمور، طالما أنّ المواجهة تبدو هي السياق الذي يذهب إليه أو يؤخذ إليه حراك الساحات، خصوصاً أنه وبمعزل عن الصحّ والخطأ، لا يستطيع أحد ان ينكر حقيقتين، أولاهما أنّ خطة التحرك وشعاراته ترسمان بطريقة لا ديمقراطية، وفي غرف سرية يتولاها مجهولون، وتسوّقها مؤسسات إعلامية عملاقة ولا دور للناس الطيبين المشاركين في تحديد القرار الواجب سلوكه ولا في الشعار الأسلم تبنيه، ولا يستطيع أيّ من الذين يتسابقون على مديح الحراك وشعاراته وخططه الادّعاء بأنهم يعلمون كيف وأين تحدّد هذه الشعارات والخطوات، والأكيد أن لا أحد منهم لا يستطيع إنكار أنّ مشروعية قيادة التحرك مستمدّة من السيطرة فقط على مقود الوسيلتين الإعلاميتين اللتين تتوليان النقل المباشر وتحديد القيادات التي تتقدّم الصفوف بين المنظمات الشبابية، وبالتالي لا مجال للمقارنة مع تحركات المعلمين وهيئات التنسيق النقابية المستمدّة مرجعيتها من أطر منتخبة، فحجم الأعضاء في المنظمات التي تستولي على القرار من إجمالي المشاركين لا تحتسب بأيّ مقياس سبباً شرعياً لتوليهم وضع الشعارات التي تتخطى المطلب الأساسي وهو حلّ بيئي ونزيه بلا فساد ومحاصصة لأزمة النفايات، وما عداه توريط للمشاركين بحماسة نقية وعفوية بأخذ الحراك إلى مكان لا دور ولا كلمة لهم فيه، ومصدر قوة هؤلاء المنظمين ليس فعاليتهم في الحشد والضبط والتجميع كعناصر تظهر شعبية هذه الرموز والمنظمات التي ينتسبون إليها، بل بالمكانة التي يتقاسم تحديدها القيّمون على الوسيلتين الإعلاميتين العملاقتين اللتين تقودان الحراك وهما مؤسستان تجاريتان في النهاية يملكهما رجلا أعمال لهما كلّ الاحترام والتقدير ومشاعر الودّ، لكن هما لا ينكران أنّ لهما مصالح وحسابات محلية وإقليمية، والمحطتان اليوم تقومان تماماً كما كانت قناتا «الجزيرة» و»العربيةط تقرّران من هم رموز حراك ساحات مصر وتونس وعبر إدارة توازن بين المكونات التي تهمّ كلّ من القناتين، هكذا كانت تتمّ وهكذا هي الآن تتمّ بالمثل يومياً عمليات الفك والتركيب لمرجعية القرار وعمليات إضافة وحذف لمنظمات ولشباب من الواجهة الرئيسية للحراك.

- أما الحقيقة الثانية فهي أنّ نية التصعيد مسبقة لدى القيمين على التحرك خلافاً لطبيعة كلّ حراك مطلبي يريد أكل العنب لا قتل الناطور، وبالتالي من يملك جواباً على سؤال كيف يمكن لتحرك مطلبي أن يرفض دعوة رئيس الحكومة للحوار بعدما أرسل مرافقه ليدعوهم إلى مقابلته وكان جوابهم الفوري لا نريد منه شيئاً، فإنْ كان مع الحراك ويريد الاستجابة فليرحل، ومن يستطيع التمييز بين هذا الجواب وجواب المعارضة السورية على دعوة الرئيس السوري بشار الأسد للحوار، ولو ذهب قادة الجمعيات والمنظمات وطرحوا برنامجاً مطلبياً واضحاً لحلّ قضية النفايات وفشلوا وعادوا إلى التصعيد لربحوا، وإنْ نجحوا لربحوا وربح البلد، ولماذا كان جوابهم الرفض إنْ لم يكن الهدف شراء التصعيد بأيّ ثمن وزجّ الناس فيه، وهذا مقبول ومسموح طبعاً عندما يكون البديل شعار سياسي قابل لامتلاك آلية تطبيقية، فما هي البدائل التي طرحت، انتخابات نيابية معلوم استحالة إجرائها بلا قانون وارتباط القانون بالتشريع وارتباط التشريع بمرسوم دورة استثنائية وحكومة تشرف على الانتخابات، فهل كانت هذه هي الروزنامة التي طرحت مثلاً لمهلة أسبوع بوضوح تقول تعالوا، على الحكومة بدلاً من الاستقالة فتح دورة استثنائية ببند وحيد هو قانون انتخاب جديد يقوم على النسبية، وعلى المجلس النيابي أن ينعقد فور صدور المرسوم لإقرار القانون فوراً وخلال ثلاثة أيام تدعو الحكومة إلى انتخابات على أساسه لتكون ضمن المهل الدستورية، ورغم انّ هذا موضوع معقد وصعب ويتخطى الفراغ الرئاسي لكنه لو تمّ لقلنا أنّ الوفد قابل رئيس الحكومة وعرض روزنامته وحاول استثمار نزول الناس إلى الشارع لفرض حلول وليس لشراء التصعيد لغرض خفي، وعندما تكون المطالب هي الاستقالات وليست خطط حلول، وعندما تكون استقالة الحكومة كعدمها بغياب رئيس جمهورية لأنها ستبقى ولو استقالت، يصير التصعيد للتصعيد.

- يبدو أنّ خطة التصعيد للتصعيد تسير كما يرام، والتصعيد ليس بالشيء السيّئ إذا كان ضمن خطة لتغيير شامل نحو الأفضل او لتراكم مطلبي هادئ، لكنه ليس هذه ولا تلك هو تصعيد سيذهب بالبلاد نحو تكبير حجم المشاركة الغاضبة في الشارع، ومواصلة الإمساك بالمقود عبر المؤسستين الإعلاميتين اللتين لا تكتفيان بالتغطية بل تعلنان بصورة لا لبس فيها الدعوة كلّ ساعة للمشاركة والنزول للساحات بما يضعهما في موقع القيادة الفعلية للحراك وبدونهما يصير الحراك كحراك أهالي العسكريين المخطوفين الذين لم يحوزوا لا وقتاً ولا اهتماماً لجعل قضيتهم قضية رأي عام لبنانية، ولا حازت قضية مثل قضية أسر شهداء المعارك والعمليات الإرهابية التي قادها الموقوف أحمد الأسير للضغط على السلطات منعاً للفلفة التحقيق، وهو الحراك الذي جعلته «الثورة منسياً»، والصيرورة الطبيعية لهذا التصعيد الذي تريده القناتان لحسابات لا تتوازن مع اهتمامهما بقضايا أخرى ولا بلهجتهما الإخبارية هناك والمنتمية والمتبنية هنا، هي الصدام، وقد نصحو بعد أيام على نقل مباشر من سرايا بيت الدين أو سرايا صيدا أو الهرمل أو طرابلس أو جونية أو كلها معا ًوقد اقتحمها متظاهرون، وتطوّقها القوى الأمنية والمواجهة وراء الباب، والمواجهة دم، والدم يستسقي الدم، والمواجهة تبدأ بتصعيد متواتر زمنياً من أسبوع لأسبوع حتى تسقط الدماء فتصير مفتوحة، وعندها يندمج الحلّ الأمني المتمثل بوقف نزف الدم بالحلّ السياسي المتمثل ببند في هيكلية إعادة بناء السلطة ليلبّي النقطة التي بلغها الحراك ويشكل سبباً لوقفه، ولا يبدو انّ شيئاً يمكن ان يحدث إلا الذهاب إلى سيناريو انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية، وهو خيار لا نضعه هنا للنقاش من قبيل الاعتراض، بل لنقول إنّ هذا هو السياق الطبيعي الوحيد وليس قانون انتخاب ولا رحيل حكومة، ولا حلّ لقضية النفايات، ولا مواجهة للفساد رغم النوايا الطيبة للناس المشاركين والتمنيات التي لا تقلّ طيبة للشخصيات والأحزاب المتفائلة، والذي يستحق الاحترام لذكائه ونباهته ووضوحه أكثر من كلّ المدعين انهم قادة سياسيون وهم يمجّدون العفوية ويصفقون لها، هم أولئك الذين خرجوا في الساحات يصرّحون وهم يملكون جرأة القول علناً إنهم ينزلون إلى الساحات لإيصال قائد الجيش إلى سدة الرئاسة.

- «كلكن يعني كلكن» تضع البلاد في حالة التأزم والصدام، أمام الاستحقاق الرئاسي وجهاً لوجه، وتضع كلّ السياسيين المرشحين المفترضين خارج السباق، وتضع المواصفات للرئيس بالقدرة على الضبط والعودة بالأمن للبلاد من جهة، ومطابقة مواصفات أن يكون المرشح الرئاسي من خارج نادي «كلن يعني كلكن» ويجري تقديم مرشح احتياط هو الناشط المدني الوزير السابق زياد بارود الذي يتصدّر شاشات القناتين القائدتين للحراك هذه الأيام.

- الطريق الذي يجنّب لبنان الصدام اليوم هو أن تقرّر هيئة الحوار التي دعا إليها الرئيس نبيه بري دعوة وفد من خمسة أشخاص من بينهم صاحبي القناتين العملاقتين وثلاثة شخصيات يمثلون الجمعيات التي تقرّر روزنامة الحراك، وعسى أن يكون بينهم الوزيران شربل نحاس وزياد بارود لتمثيل جناحي الحراك وقناتيه، ويحضر الوفد واحدة من جلسات الحوار، للوصول إلى روزنامة تبدأ بالتوازي بين مساري الحلول المطلبية والحلول السياسية، تنتهي نهاية العام وتتضمّن حلاً سريعاً وفورياً لأزمة النفايات قادعتها الأساس هي البلديات ومع هذا الحل البلدي للنفايات، تشريع لقانون انتخابي على أساس النسبية، وتشكيل هيئة أهلية ورسمية مختلطة تتولى الإشراف على قانون من أين لك هذا؟ وشموله لكلّ من تولى مسؤولية في الدولة طيلة سنوات ما بعد اتفاق الطائف وإقرار قانون للنزاهة يقوم على التمانع بين تولي مسؤولية رسمية والقيام بأعمال خاصة تتصل بالدولة ومؤسساتها.

- في حلقة الغد ماذا عن «كلكن يعني كلكن» والتصويب على المقاومة وقائدها من جانب واضح ومعلن في الحراك وقبول تحييد هوية النظام السياسي من الصراع مع إسرائيل من الجانب الآخر؟