بالنظر إلى التكوين المناطقي والطائفي للذين احتشدوا في تظاهرات وسط بيروت، وخصوصاً في تظاهرة السبت الماضي، يظهر بوضوح أنّ النسبة الأكبر من المتظاهرين تنتمي إلى البيئة الحاضنة للمقاومة، كما يتضح أنّ هؤلاء لا يزالون يشكلون نسبة كبيرة من ضحايا الحرمان والإهمال، وأنهم رغم كلّ ذلك كانوا يمتنعون عن القيام بثورة أو أي حراك في الشارع ضدّ الذين يعرفون أنهم سبب حرمانهم وقهرهم وإهمالهم وهم يعلمون أنّ هؤلاء الذين يشكل تيار المستقبل حزبهم السياسي الجامع يتربّصون بالمقاومة وهم يصمتون عنهم ويحملون مسؤولية الإدارة الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية في البلاد منذ اتفاق الطائف وحكوماته المتعاقبة، وهم يعتقدون أنّ امتناعهم ضريبة الإجماع ولو تحت الطاولة على المقاومة أو على الأقلّ عدم استهدافها من جهة، ويرون من جهة أخرى أنّ الصمت والامتناع عن الصراخ والحراك وصولاً إلى الثورة أمر ممنوع كي لا يتحوّل الصراخ ولا تتحوّل الثورة حرباً أهلية أو فتنة.

في المقابل، يعرف هؤلاء أنّ النظام الطائفي هو سبب كلّ بلاء في لبنان وأنه أساس الفساد والاستزلام وأن لا حلّ إلا بإلغاء هذا النظام، ويصمتون في المقابل عن السعي والضغط لخطوات باتجاه إلغاء الطائفية لأنهم يعلمون أنّ الشارع المسيحي ينظر بعين الريبة إلى كلّ دعوة لإلغاء الطائفية، وأنّ كلّ مرجعياته السياسية والدينية تقف ضدّ هذا الإلغاء، ويعتبرون أنّ أقوى هذه المرجعيات السايسية وهي تلك التي يمثلها العماد ميشال عون تقف مع المقاومة، ما يستدعي عدم إحراجها أمام جمهورها بطرح يستشعر منه كأنه موجه ضدّ مشاركة مسيحية فاعلة في الدولة ومؤسساتها، بينما هو إنصاف لكلّ لبنان واللبنانيين، فيصمتون ويتبنّون كرمى لعيون المقاومة خطاباً عنوانه المرشح المسيحي القوي لرئاسة الجمهورية والقصد هو العماد عون لأنهم يرون حزب الله وعلى رأسه أمينه العام الذي يفتدونه بالدماء يقول إنّ هذا الترشيح عربون وفاء من المقاومة وأهلها لمن «وقف معنا ووضع رقابه مع رقابنا في حرب تموز 2006».

اليوم تقف الأمور عند منعطف خطير، فمن جهة، خرج جزء من شارع حزب الله إلى الساحات يندّد بالفساد والنظام الطائفي وقرار التحرك ليس في يد هؤلاء المشاركين في الساحات من جمهور المقاومة، ويجري سحب هذا الشارع تدريجياً نحو مواجهة قد تؤدّي إلى استبعاد مرشح حزب الله الرئاسي الذي يمثله العماد ميشال عون، وعلى ضفة موازية يضطر هذا الجزء من الشارع كي لا يبدو فئوياً في لحظة جامعة وطنياً ونادرة، أن يتقبّل أن يشمل شعار «كلكن يعني كلكن» قائد مقاومتهم، لأنهم يخشون أنّ المطالبة بتمييزه ستبدو فعلاً طائفياً يدفع كلّ شارع إلى السعي إلى استثناء زعيمه.

لم يعد مهماً ما إذا كان حزب الله محقاً في سياساته بحجب التحرك ضدّ الفساد، مراعاة لتيار المستقبل وسعياً لقدر من الإجماع على المقاومة وحولها أو لتخفيف حدة العداء لها، وخصوصاً لمنع الفتنة، كذلك لم يعد مهماً ما إذا كان تغييبه للتحرك نحو إلغاء الطائفية كان صحيحاً في مراعاة الشارع المسيحي وحليفه الأبرز فيه، وكذلك ترشيحه للعماد عون للرئاسة تحت شعار المرشح المسيحي القوي.

الأهمّ اليوم هو أنّ حزب الله لا يستطيع برأي جزء من قاعدته وجمهوره ومحبيه والذين يرونه وحده من يقدم التضحيات لردّ أكبر مصدرين للخطر على اللبنانيين «إسرائيل» والإرهاب، أن لا يحدّد موقفاً واضحاً يخرج الأمور من الغموض والضبابية، فيقدّم رؤيته السياسية الجدية والبرنامجية لمكافحة الفساد ورفضه لأن تشمله الدعوات لإسقاط الفاسدين ويكشف حجم المؤامرة بمحاولات الزجّ باسم قائد المقاومة بين قادة النظام الطائفي الفاسد، وفي المقابل يقدم مشروعه لنظام لاطائفي وموقفه الرئاسي بشفافية بما فيها فرضيات طرح قائد الجيش للرئاسة.

حزب الله لا يملك الكثير من الوقت لينتظر الانتصارات الميدانية في سورية ونضوج تأثيراتها الإقليمية وتداعياتها اللبنانية، ولا الوقت اللازم لبلوغ تأثيرات مناخات التفاهم النووي لتصل إلى لبنان وهو يعلم أنّ مرورها في السعودية إجباري لتصل إلى لبنان.

حزب الله أمام امتحان كبير يتصل الفوز فيه بقدرته على الحفاظ على تماسك شارعه من جهة، والتحكم بمسار اللعبة اللبنانية كي لا تنفتح على خيارات منعه من توظيف انتصاراته الإقليمية ليكون لبنان أشدّ استقراراً من جهة مقابلة، والطريق هو التخلي عن سياسة التهوين من حجم ما يمكن للعبة الداخل أن تفعله إذا لم توضع لها ضوابط أكبر من الرهان على طاولة الحوار التي دعا إليها الرئيس نبيه بري لأنّ قبولها من الجميع لا يعني بالضرورة نية السماح لها بالنجاح وبلوغ التفاهمات على قانون انتخاب جديد أو تفعيل العمل الحكومي بما يوجه إلى الشارع الغاضب، وخصوصاً في ملف النفايات رسالة جدية تهدّئ من غضبه، فهل من بين هذه الضوابط القبول بالتفاهم مع العماد عون برئيس تسوية يجري التفاهم على إنضاج وصوله ضمن تفاهم مع الرئيس بري ويقطع مسار الأحداث وفي الروزنامة تعيين العميد شامل روكز قائداً للجيش وسلة من الإنجازات البرنامجية للعماد عون أولها قانون انتخاب على أساس النسبية ومجموعة إجراءات إصلاحية جذرية تصل إلى حدّ البدء بخطة إلغاء الطائفية، أم أنّ حزب الله ينتظر إنجاز الزبداني ليبدأ إنجاز عرسال ويبدأ معه تغيير داخلي وإقليمي سريع؟