قبل أن يمتحنها الآخرون وعلى رأسهم الشمّاتون، تمتحن الرابية نفسها غدًا. تمتحن “شعبها العظيم” الذي ما اعتاد أن يخذل جنراله إذ طلب. ليست الهواجس “بالجملة” باستثناء العدد. فالمواطنون الذين نزلوا الى الشارع السبت الفائت بالآلاف للمطالبة بحقوقهم صعّبوا المهمّة على العونيين، وفرضوا على كلّ ناشطٍ فيهم بدءًا بالرئيس الجديد وصولاً الى أصغر طالب أن يكون “نفرًا” مستنفرًا حرصًا على ألا يبدو الفرق بين ساحتي السبت والجمعة فادحًا وفاضحًا... وموجعًا.

في الأمس، كما قبله، كان على جبران باسيل أن يخلع عنه بزّة الرئيس ويتجه مباشرة الى “مركزية” التيار في ميرنا الشالوحي حيث ينتظره رفقاء الدرب مستقبلاً، أما المهمّة فواضحة: التوزّع على مجموعة هواتف للاتصال شخصيًا بكلّ ناشطٍ في التيار وبعائلته كما بكلّ من يُعتبر محايدًا أو بتعبير أكثر دقّة رماديًا. هذا ما فعله باسيل بالضبط وسيواظب عليه خلال الساعات المقبلة مع الوزير الياس بو صعب والنائب ابراهيم كنعان ونقولا صحناوي وناجي غاريوس وسليم عون وسواهم من كوادر التيار الحاليين والسابقين.

حرصٌ على عاملين

المشهديّة مطمئنة بالنسبة الى العماد ميشال عون أقله على مستوى دينامية كوادره، وهي تبدو كذلك حسبما يُنقَل اليه على صعيد قطاعاته المختلفة وهيئات المناطق التي ستغيّر استراتيجية انطلاقتها الى التظاهرة على ما علمت “​صدى البلد​” محتفظةً بعاملين بديهيَّين: عامل المفاجأة العدديّة، وعامل الوصول دفعة واحدة كي لا تبدو الصورة هزيلة ويغدو استغلالها سهلاً إعلاميًا لتقزيم الحراك بوضعه بديهيًا في مجال مقارنة مُتعمّدة مع “الحراك اللاسياسي واللاطائفي” والذي استطاع أن يحشد ما فاق توقّعات منظميه حتى.

خليّة نحل لاسلكيّة

بسيطة هي الخطّة العونية لتظاهرةٍ يعتقد “أبناء العماد” أنها ستكون الأكبر بعد الزحف الكبير الذي شهدته الساحة عينُها في العام 2005. الآمال كبيرة والتوقّعاتُ التي يرسمها هؤلاء تبقى طيّ سرّهم وحدهم خوفًا من خيبةٍ مسائيّة. الى حينها، يقنع العونيون أنفسهم بأن الجهود الشاقّة التي يبذلها الجميع بلا استثناء من رأس الهرم الى قاعدته ستجدي نفعًا. لذاك الغرض، استولدت الرابية ما يشبه “خليّة نحل لاسلكيّة” تحتضنها مركزيًا “ميرنا الشالوحي” ولا مركزيًا الهيئات الناشطة في المناطق والضاربة على أوتار المفاتيح القادرة على “المَونة” والحشد. فلا ضير مثلاً في أن يُفاجَأ أحد الناشطين من شديدي النشاط والالتزام والتجييش بثلاثة اتصالاتٍ ترده في أقل من ثلاثة أيام لتأكيد مشاركته في التظاهرة المركزيّة، وهو الذي يبدو “في الجيبة”، فكم بالحريّ بالنسبة الى من لا يزال التردّد حليفهم... هؤلاء متروكون لعون شخصيًا الذي يُكثِر إطلالاته وضربه على الملفات الحسّاسة تحت عنوان كبيرٍ لقضيّته الكبيرة: حقوق المسيحيين.

بصمة مناطقيّة

في الأمس لم تكن المواكب السيّارة بروفا رسميّة لمشهديّة السبت، بل مجرّد “تحميةٍ” تندرج ضمن الخطّة بعيدة الأمد، على أن تعقبها مسيراتٌ مماثلة اليوم ولكن ضمن نطاقٍ مناطقي تكتسب الكثير من العفويّة واللغة التجييشيّة. أما التغيير الذي طرأ على تظاهرة الغد والذي يبقى رهن قدرة المنظمين والحاشدين على ترجمته فيتجسد في الإيعاز الى مسؤولي المناطق بضمان تجمع المواكب وانطلاقها على مستوى مناطقي ضيّق، بمعنى آخر أن يكون التجمّع على صعيد كلّ ضيعة لا على صعيد القضاء برمّته لتتمكّن كلّ بلدةٍ في هذه الحالة من أن تحتفظ بتنظيمها وبصمتها في التظاهرة المركزيّة قبيل محطة الوصول وخلالها وبعدها.

تبريدٌ أم ذبحة

في الظاهر، لا يبدو أن للهاجس العددي مطرحًا في الرابية، أما في قرارات النفوس فلا يمكن إلا لعشيّة الجمعة أن تبرّد القلوب البرتقالية أو أن تصيبها بذبحات خيبة متقطّعة. التوقّعات الأولية في كواليس الرابية تشير الى ضُعف ما حشدته الحملات المدنية مجتمعةً يوم السبت المنصرم. لا يبدو الدخول في لعبة الأرقام مناسبًا أو محبذًا بالنسبة الى الرابية وهي المشكّكة في أن يكون الرقم المُتداول إعلاميًا (50 ألفًا) صائبًا أو حتى قريبًا من حقيقة عدد من وطأت أقدامهم تلك الساحة. أما عدا ذلك، فالبناء على اللعبة العاطفية والسوابق التاريخيّة يريح ولا يُثلِج.

جواب الرابية واضح

أمام كلّ هذا التنظيم والآمال، سؤالٌ قد يبدو بديهيًا في ساحاتٍ لا تفرغ من ناسها: ما جدوى الشارعين؟ ولمَ سيحشد عون في هذا التوقيت بالذات فيما شارعٌ آخر ينادي بالمطالب نفسها؟ الجواب في الرابية واضحٌ: نحن من استهللنا النزول الى الشارع قبل أيّ حملة أخرى، وكلّ المطالب التي يرتقون بها على طريقتهم هي مطالبنا في الأساس. سنبقى نتظاهر الى أن نصل الى النتيجة المرجوّة وقوامُها: قانونٌ انتخابي عادل يفرز مجلسًا نيابيًا جديدًا قادرًا على انتخاب رئيس قويّ، وإن لم يستجيبوا لهذا المطلب فليتركوا الشعب ينتخب رئيسه مباشرة.

ثلاثية مجهولة الأبعاد

ليست التحدّيات التي على العونيين ألا يسقطوها من حساباتهم قليلة أو سخيفة. هي ثلاثيّة مجهولة الأبعاد: الشارع المُقابل الذي أطلق قطار تصعيده باقتحام أولى الوزارات والذي يمكن لعون أن يخطف منه بعضًا ممن أغاظهم سلوك بعض الناشطين أو نفّرهم؛ إعادة ترتيب الشؤون الداخلية بعد “الخربطات” التي حلّت به بتزكية جبران باسيل؛ و”الفلتان” الحكومي الذي يبقى أقوى مفاعيله تجاوز إرادة وزراء تكتّل التغيير والإصلاح وحزب الله وإصدار مراسيم وقرارات بلا تواقيعهم... كلُّ تلك التحديات قد يذلّلها حوار عين التينة المُرتقب من دون أن يعني ذلك أن عون لن يكتسب منه نقاط قوّة لتسويغ بقائه في الشارع... أيًا يكن العدد.