لم يعد مريبًا القول أنّ في التحركات الشبابية المطلبيّة إنّ. ليس اقتحام ناشطي ​المجتمع المدني​ لوزارة البيئة، في خطوةٍ استصعب على الكثيرين من المتعاطفين معهم وضعها في إطار "السلميّة" التي تعهّدوا بها، وانقسمت حولها هيئات المجتمع المدني نفسه ودانتها هيئاتٌ نقابية منخرطة في الحراك، القشّة التي قصمت ظهر البعير.

هذه القشّة بدأت ملامحها بالظهور قبل ذلك، وإن فضّل الكثيرون تكذيب أنفسهم. لم يكن أحد يرغب أن يصدّق أنّ "براءة" الحراك الشعبي المدني الأول من نوعه في وجه طبقةٍ سياسيةٍ لا يستطيع أن ينكر أحدٌ أنّها فاسدة ومتآمرة قد تكون مجرّد "أكذوبة"، أو حتى أنّ "طابوراً خامساً" دخل على خطها، كما اعتاد أن يفعل دائمًا، فأفرغها من مضمونها...

نظام فسادٍ ومحاصصة..

في البداية، لا بدّ من القول أنّ أصل التحرّك محقّ بل هو مطلوب بكلّ ما للكلمة من معنى.

من هذه الزواية بالتحديد، تنطلق مصادر مطّلعة في مقاربتها للموضوع، موضحة أنّ الأزمات التي يعاني منها اللبنانيون أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى، بدءاً من أزمة الكهرباء المقطوعة أربعًا وعشرين ساعة على أربعٍ وعشرين، مرورًا بأزمتي الماء والبطالة المستفحلتَين، وصولاً إلى الطامة الكبرى في أزمة ​النفايات​، التي شكّلت فضيحة بالحدّ الأدنى، بعدما عجزت الحكومة عن حلّها، فتراكمت في الشوارع بشكلٍ لا يمكن أن يُقبَل أو يُحتمَل.

كلّ هذه الأزمات يتحمّل مسؤوليّتها بالدرجة الأولى نظام الفساد والمحاصصة الذي حكم لبنان خلال العقود الماضية، تقول المصادر، ما يجعل تأييد المطالب المحقّة التي يرفعها المجتمع المدني أمراً بديهياً وطبيعيًا لا رجوع عنه. ولكنّ هذا التأييد يصطدم سريعًا بـ"الصدمة الأولى"، بحسب المصادر، فعلى الرغم من أنّ المسؤول عن الفساد والمهيمن على السلطة والمستفيد من طائفية النظام من أجل تمرير الصفقات واستنزاف مقدرات البلد المالية على مدى أكثر من خمس وعشرين سنة معروف وواضح ومشخّص ولا يوجد أحد يمكن أن يتوه عنه، إلا أنّ اللافت أنّ أحداً لا يهاجم هذا الطرف أبدًا، وإنما يبقى في الظلّ، أو تتمّ مساواته في أحسن الأحوال بأفرقاء آخرين، بينهم من سبق هؤلاء الشباب بالنضال من أجل محاربة الفساد.

كلهم يعني كلهم؟!

ومن "الصدمة الأولى" هذه إلى "صدماتٍ" أخرى بالجملة أمكن رصدها خلال الأيام القليلة الماضية، وشكّلت في مكانٍ ما "جرس إنذارٍ" أوحى بأنّ وراء الأكمة ما وراءها.

ولعلّ شعار "كلهم يعني كلهم" الذي شكّل عنوان إحدى الحملات التي تمّ التركيز عليها بشكلٍ مضخّم جداً أكثر ما أثار الريبة واستفزّ الكثيرين، خصوصًا أنّه وضع جميع المسؤولين في خندقٍ واحدٍ، الوطنيين منهم والفاسدين، وبالتالي جهّل الفاسد الحقيقي، وهذا أمرٌ تصفه المصادر بالمشبوه، مشيرة إلى انّه يدلّ على أجندة خفية لدى الذين يهيّجون الشارع بهذا الاتجاه. وتلاحظ المصادر أنّ هذه الأجندة تتركّز على ضمّ اسم الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله إلى أسماء جوقة الفاسدين، وقد برز هذا بالتركيز على صورة السيد نصرالله وإبرازها في درجةٍ واحدة مع صور مسؤولين ارتبط اسمهم بالفساد، ووصولاً إلى التصريحات المتكررة من قبل مسؤولي بعض الحملات المشاركة في الحراك والتي تبرز اسم السيد نصرالله بين الفاسدين بشكلٍ مقصودٍ ومحدّد.

وفيما تسأل المصادر "لماذا التركيز على السيد نصر الله، ومن يدفع بهذا الاتجاه، وبأي هدف؟" تتحدّث عن معلوماتٍ لا يمكن تجاهلها تفيد أن جهاتٍ خارجية تلعب دوراً كبيراً وأساسياً في أخذ الحراك إلى الجهة التي تريدها، وهو ما ألمح إليه وزير الداخلية والبلديات ​نهاد المشنوق​ أيضًا بحديثه عن "دولة عربيةٍ صغيرة" متورّطة في التحريض على التظاهر، وإن تراجع عن ذلك بعد تصريح رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ الذي وضع الاتهامات لدولة قطر في خانة "الإشاعات". وتنبّه إلى أنّ هذا الأمر يؤدّي لتحوّل الحراك عن المطالبة بالقضايا الاجتماعية إلى المطالبة بتحقيق أهداف سياسية على رأسها تشويه صورة حزب الله تنفيذاً لأجندات خبيثة، بحيث يتم محاصرة الناشطين الوطنيين، سواء من اليسار أو من ​الحزب الشيوعي​ أو فريق الوزير السابق ​شربل نحاس​ الذين يريدون أن يقودوا الحراك باتجاه تحقيق المطالب دون الانحراف عن التوجه الوطني، ملاحظة أنّ هذه المحاصرة يقابلها إطلاق يد ناشطين في المجتمع المدني الذين يبدو واضحاً أن لديهم هدفاً مختلفاً.

حرصًا على "الثورة"...

ختامًا، لا شكّ أنّ نوايا الشباب المتظاهرين في غالبيتهم العُظمى طيبة وسليمة، وهي تنطلق من الوجع الحقيقي الذي يشعر به كلّ الشعب اللبناني، ولكن لا شكّ أيضًا أنّ هناك الكثير من المسائل النافرة التي باتت تطرح الكثير من علامات الاستفهام التي تبحث عن إجابات، فمن يقود هذا الحراك ومن الذي يحرّكه في الاتجاه الذي يريده؟ ومن الذي يموّله ويتحمّل تكاليف حملاته الإعلاميّة والإعلانيّة بالشكل اللافت وغير المسبوق الذي نشهده؟

كلّ هذه الأمور لا يمكن التغاضي عنها بل ينبغي التوقف عندها وفحصها بشكلٍ دقيقٍ ليس لفهم طبيعة ما يجري خلف الستار فحسب، بل حفاظاً على "الثورة"، إن توفّرت مقوّماتها، وللتصدّي لمحاولات حرفها عن مسارها، لأجل شعب لبنان المناضل أولاً وأخيراً...