- لا يمكن لأيّ مدقق أن يكون منصفاً ويستنتج أنّ تظاهرة السبت في 29 آب قد نجحت بتحشيد ما حشدت لولا الموقف المتكاسل عن اتخاذ موقف من قوى الرابع عشر من آذار وقوى الثامن من آذار تجاه جمهور كلّ من الفريقين والموقف من المشاركة، حيث احتشد في الساحات الكثير من جمهور الفريقين غير المنسلخ عن قياداته بسبب الفكرة التي كوّنها ضمناً عن حراك الساحات، فالجمهور الحقيقي للحراك وتشكيلاته والاستنفار الإعلامي المحيط به والقوى النقابية والحزبية التي رأته متطابقاً مع أجندتها السياسية ومن التحق به من جمهور الثامن والرابع عشر من آذار على قاعدة الطلاق مع قيادات الفريقين، هو الجمهور الذي برز في تظاهرة 22 آب وعاد إلى الظهور بذات الحجم في يوم المواجهة الطويل أمام وزارة البيئة.

- القاعدة العامة لمشاركة شرائح من جمهور الفريقين وليس عصبهما الحزبي كانت القضايا المطلبية الضاغطة، خصوصاً قضية النفايات التي قرّر المواطنون أمام عجز قياداتهم الموجودة في الحكم، الذي يلقي كلّ فريق تبعات الشلل فيه على الفريق الآخر، أن يضعوا رقابهم مع إخوتهم المواطنين وأن يتصرّفوا كمواطنين لإيصال رسالة غضبهم إلى قياداتهم من جهة على درجة التآكل والهريان المعمّمة في البلاد، وعجزهم عن احتمالها واحتجاجهم على إهمالها وعدم إدراجها في جدول أولويتهم وبرامج أعمالهم من جهة مقابلة، وتغاضوا عن الاتهام الجامع للقيادات بالفساد الذي يشكل تهمة يلقيها كلّ فريق ومعه جمهوره في وجه الفريق الآخر، بحيث لا توجد في البلد رواية متفق عليها للفساد وتوزع مسؤولياته، وفي داخل جمهور كلّ فريق شارك في الساحات نبرة تميّز تبنيه لرواية فريقه في توجيه الاتهام وتحديد المسؤولية وهو يردّد الشعارات عن الطبقة السياسية الفاسدة بلا استثناء.

- في جمهور الرابع عشر من آذار الملتصق بقياداته والمشارك في الساحات فرح مشجع على المشاركة كهدية يقدّمها لقياداته، فمن جهة هو يشارك من دون كشف هويته بتحرّك لا يحمل توقيع فريقه ويهتف فيه ضدّ أمين عام حزب الله حيث ترفع صوره مع الفاسدين الذين طالما كانت تحتكر صفتهم قيادة تيار المستقبل، من دون أن يترتب على ذلك أيّ حساسية مذهبية أو توتر سياسي بين المستقبل وحزب الله، ومن جهة أخرى هو يأنس لكون أغلب قادة الحراك هم من الوجوه التي يألفها بعدما شاركت معه في انطلاقة حركة الرابع عشر من آذار وبالتالي عدم الشعور بالغربة، بل اعتبار الحراك امتداداً موصولاً وتجديدياً لحركة الرابع عشر من آذار تكمل المهمة حيث منعت المذهبية وقوة السلاح برأيه تيار المستقبل من مواصلتها بعد السابع من أيار 2008، ومن جهة ثالثة على مستوى نخب تنتمي لفريق الرابع عشر من آذار كان التنظير لهذه الأفكار علنياً، خصوصاً على قناة «أل بي سي» التي تعتبر شقيقة للمشروع السياسي للرابع عشر من آذار في المرحلتين، الحركة الأولى والحركة التجديدية بصيغتها المنقحة حيث إسقاط النظام الأمني إسقاط لحزب الله كما قالت إحدى الإعلاميات.

- على مستوى القيادات الوسيطة في قوى الرابع عشر من آذار كان إضافة للرغبة بخوض حرب بالوكالة مع حزب الله، ارتباك وتقلب في الموقف بين القلق على الحكومة من جهة والرغبة برمي قفاز استقالتها في وجه حزب الله من جهة مقابلة، وبالتوازي رغبة بالدفع بإحراق صورة العماد ميشال عون كمرشح رئاسي ينتهي مفعول ترشيحه مع السياسيين المرشحين بشموله بشعار «كلكن يعني كلكن»، وربما يشكل ذلك منصة لتسويق المرشح الذي يظنون أنّ قيادتهم السياسية ترغب في إيصاله إلى رئاسة الجمهورية وهو قائد الجيش العماد جان قهوجي، وساعد على الارتباك التباطؤ السعودي الذي لم يمانع في البداية بتقديم قضية بحجم أزمة مفتعلة للنفايات ناتجة من عدم صياغة تمديد موقت لعقد شركة سوكلين أو البحث المبكر عن حلّ، وهو تباطؤ صار مربكاً عندما عاد فاستدرك وانسحب من التغطية اللازمة للحراك بعدما بدا أنّ لقطر النصيب الوافر في قيادة الحراك سواء على مستوى المؤسسات الإعلامية أو الجمعيات الراعية المنتمية في أغلبها إلى منتدى الدوحة الذي تترأسه الأميرة موزة بنت مسند، خصوصاً بعدما صار واضحاً أن القطريين يستعملون الحراك لمساومات تتصل بالحرب التي تخوضها جماعات محسوبة عليهم في سورية بوجه حزب الله، عبر توجيه رسائل تفاوضية مزدوجة لحزب الله تربط تصعيد الحراك واستثماره وتوجيهه العدائي ضدّ حزب الله وبين وتيرة العمليات العسكرية في الزبداني، وكان سهلاً على أيّ متابع ملاحظة هذا الارتباك من تغيّر نبرة تلفزيون المستقبل والإعلاميين المحسوبين على فريق الرابع عشر من آذار تجاه الحراك حتى استقرّ الأمر على التحذير منه والدعوة إلى خطاب يقوم على التمييز بين الوقوف مع المطالب وعدم المشاركة في حراك «ليس مقوده بين أيدينا». ويكفي للدلالة على الارتباك الردّ الذي وجهه الرئيس سعد الحريري لوزير الداخلية نهاد المشنوق حول اتهام قطر بالوقوف وراء الحراك لحسابات خاصة، بينما عمّم حزب القوات اللبنانية على جمهوره مقاطعة الحراك تعبيراً عن رفض إسقاط الحكومة ورفض استباق الانتخابات الرئاسية بانتخابات نيابية ورفض التشريع الفوري لقانون جديد للانتخابات.

- على مستوى قوى الثامن من آذار المشكلة كانت أشدّ تعقيداً، فالجمهور الرئيسي للقوى الكبرى حركة أمل والتيار الوطني الحر وحزب الله لديه أسباب متفاوتة للمشاركة، فجمهور التيار الوطني الحر يشبه في تفكيره الكثير مما قيل ويقال في الساحات إذا استثنينا شعار «كلكن يعني كلكن»، فالتكوين المدني والدعوات ضدّ الفساد والتحرك للإصلاح السياسي والتمسك بقانون انتخاب عصري وكثير من التفاصيل والتقنيات هي نماذج شهدناها في تحركات جمهور التيار سابقاً، وكثير من الناشطين يتحدّرون من صفوف التيار وسبق وغادروه مع تجذر حلفه مع حزب الله ودفاعه عن سلاحه ومشاركته في سورية، أما بالنسبة لجمهور حركة أمل وحزب الله فهو جمهور معقد ومتداخل وليس مجرد عصبية حزبية، هو جمهور داعم للمقاومة لكنه جمهور قادر على التحرّر من ضغط الأطر التنظيمية المحيطة به في القضايا الاجتماعية، ولذلك كانت سيولة هذا الجمهور نحو الحراك سهلة وسلسة وعفوية، وغضبه كان حقيقياً لأنه طالما كان جمهور الحركات الثورية والتغييرية، والدليل الأوضح على ذلك هو شراكة الجمهور القريب من اليسار المتداخل مع جمهور المقاومة والبعيد عن أحزاب اليسار تنظيمياً، والمستعيد لبعض من حيوية علاقته بهذه التنظيمات الآن عبر الساحات، أما على مستوى القيادات الوسيطة والإعلاميين المقرّبين أو المنضوين في أطر أو على هامشها، لتشكيلات وأحزاب قوى الثامن من آذار، فقد كان الاتجاه الكاسح هو الترحيب الفرح بالحراك في أيامه الأولى كبشارة عصر جديد، بل وربما الشامت بقيادات الثامن من آذار التي يحمل أغلب هؤلاء موقفاً نقدياً لأدائها تجاه القضايا المعيشية والحياتية للناس سواء لجهة قبول التقاسم الطائفي وارتضائه خطاباً أحياناً وسلوكاً ضمنياً على الأقلّ، ومثله التهاون مع ظواهر الفساد وعدم اعتبارها سبباً للتلاقي والفراق وتجاهل تمدّدها داخل جسم قوى الثامن من آذار، إضافة إلى اتهام هؤلاء لقيادات الثامن من آذار بالمبالغة في تفادي الخصومة مع تيار المستقبل الذي يتحمّل المسؤولية الرئيسية في نظر هذه القيادات الوسيطة والإعلامية عن الخراب الاقتصادي الذي يشكل الفساد أحد أركانه ولا يختصر الكوارث التي جلبها على البلد، وفي ضوء هذا الموقف الشامت لم يتردّد الكثير من هؤلاء من الترويج للحراك بصفته فجر لبنان الجديد وبصيص الأمل بتغيير جدي وحقيقي، والتهوين من كلّ نقد أو تحسّب أو تحذير من وجود خطط خفية وراء ستارة خلفية للحراك، وفي وقت لاحق صار الموقف لدى هذه القيادات الوسطية تقبل المحاذير لكن مواصلة الإصرار على اعتبار إغراق الحراك بالمشاركة هو الضمانة وليس الانعزال عنه والاكتفاء بنقده.

- على مستوى القيادات المقرّرة في الثامن من آذار، كان التلقي متفاوتاً، بين الاكتفاء برؤية البعد العفوي والشبابي للحراك بداية ومثل حزب الله هذا الاتجاه، أو رؤيته عنصر تحفيز للمّ الشمل الحكومي وتخطي قضايا الانقسام لبلورة حلول للمشاكل المستعصية والضاغطة وفي طليعتها قضية النفايات ومثلت حركة أمل هذا الاتجاه، وبين من حاول الدخول على خط الحراك والمشاركة، وكان التيار الوطني الحر هو الأبرز في هذا الاتجاه حتى تبلغ رفضاً رسمياً من المنظمين لأيّ مشاركة بشعارات ومن دونها، وجاءت تطورات الحراك التي أظهرت إصرار المنظمين على «كلكن يعني كلكن» وتوجيه الضوء فيها على شخص الأمين العام لحزب الله بلا مبرّر وبافتعال لافت، وبالتوازي حرص المنظمين على احتكار القرار بالخطوات والشعارات ومعهما القنوات الفضائية المواكبة، وسعيهم إلى شراء الصدام مع القوى الأمنية والتصعيد السياسي بمعزل عن السعي الجادّ للضغط من أجل حلول عاجلة للمشكلات التي أدّت لنزول الناس إلى الشارع تجاوباً مع دعوات المنظمين، فتبلور قرار واضح بالانكفاء عن الحراك، وظهر الفارق الواضح بين التظاهرة الجامعة في 29 آب وبين نهار المواجهات أمام وزارة البيئة في حجم الحشود الشعبية تعبيراً عن هذا التبدّل.

- لا تزال نظرية الإغراق قيد النقاش والتداول من جانب الكثيرين من أصحابها، تحت شعار أنّ العناوين هي عناويننا والابتعاد عن حراك يحملها سيسمح بأخذ ناسنا إليها وتركهم وقوداً لحراك تقوده قوى لا تؤتمن ونخشى أن تأخذ البلاد نحو مهلكة، أو توظف الحراك لحسابات مؤذية كما هي الخشية من أن تتولد عن هذا الحراك قوى جديدة وقيادات جديدة تحجز مكاناً لها في المعادلة بقوة الشارع، والردّ البسيط هو أن الأهمّ ليس حجم المشاركة بالحشود طالما تشكيل مركز القرار ليس نابعاً من هذا العامل ولا من أي صيغة ديمقراطية مشابهة، بل من خلال سيطرة وقبض مجموعة من الجمعيات على دفة القيادة، ومن التفاهمات التي يجرونها مع القناتين الفضائيتين اللتين تتفرّغان مع هوائهما للحراك، وهناك جدار سميك يصعب اختراقه إلا حيث تمكن الحزب الشيوعي لعراقة وجوده في هذا المضمار من تقديم جمعيات منافسة للجمعية الأبرز «طلعت ريحتكم» أبرزها «بدنا نحاسب» والتي لم تشارك في مواجهات وزارة البيئة وتقصّدت الردّ على دعوات جيفري فيلتمان للتضامن مع الساحات وحراكها ومحاولات توظيفها.

- متطرفو الرابع عشر من آذار لجهة العداء لحزب الله والتيار الوطني الحر سيعجبهم الذهاب للحراك تحت جناح «طلعت ريحتكم» وشاشة «أل بي سي» طلباً لمقايضة عنوانها نشتم بعضاً من قياداتنا أملاً برذاذ شتائم للعماد ميشال عون والسيد حسن نصرالله، وأملاً بحجز موقع وحضور، بينما متطرفو الثامن من آذار سيعجبهم أن ينضموا إلى الحراك تحت جناح «بدنا نحاسب» وشاشة الجديد طلباً لمقايضة عنوانها مهاجمة الأميركي والتحذير من مخاطر حرف الحراك عن أهدافه ولا مانع من حجز موقع أو حضور.

- سيعود الحراك على رغم ضجيج الخطوات القادمة وصخبها إلى حجم لا يشكل فيه القوة الدافعة لصناعة مشهد جديد إلا إذا تمّ استدراج القوى الأمنية للعبة الدم، بينما لعبة الحشود فتبدو في طريق العودة بعد عمر قصير من الانتعاش.