شكلت ​الأزمة السورية​ منذ بداياتها، نقطة تحوّل كبير على الصعيدين الإقليمي والدولي، ساهمت على نحو بعيد في عودة "الدب الروسي" إلى الساحة العالمية، لكسر "الأحادية" الأميركية التي سيطرت بعد سقوط ​الاتحاد السوفياتي​ السابق، وفي إبرام ​الاتفاق النووي​ بين ​إيران​ والدول الكبرى، بعد سنوات طويلة من الأخذ والرد في المفاوضات.

لم يعد أحد على مستوى العالم، غير مؤمن بأن الحرب السورية هي عنصر أساس في رسم الخارطتين الدولية والإقليمية، ومن الممكن القول أن القرار الروسي، القاضي بالدخول المباشر على الخط، قد يكون الحدث الأبرز حتى الآن، نظراً إلى أن تداعياته ستكون كبيرة جداً، بغض النظر عن النتائج التي قد يتم التوصل إليها، فما هي أهم المعطيات التي أدت إلى صدوره، وما أهمية التوقيت في لعبة الأمم على الأرض السورية، وما هي السيناريوهات المستقبلية المتوقعة؟

التقلبات الإقليمية والدولية

في الوقت الراهن، ينشغل العالم في قراءة الخطوات الروسية على الأرض السورية، من دون الإهتمام بالظروف التي ساهمت في بروزها، مع العلم أن العودة إليها مهمة جداً في فهم السياق العام الذي جاءت فيه، خصوصاً أنها كانت مرحلة يكتنفها الغموض على أكثر من مستوى.

في هذا السياق، يمكن تعداد أبرز الأحداث التي تزامنت مع صدور القرار الروسي، والتي يأتي على رأسها فشل التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية في القضاء على تنظيم "داعش" الإرهابي، بل على العكس من ذلك تمكن الأخير من زيادة رقعة إنتشاره على وقع الضربات الجوية، بالتزامن مع إعلان واشنطن وقف برامج تدريب المقاتلين المعارضين، الذين تصنفهم بـ"المعتدلين"، بسبب فشله في تحقيق نتائج تذكر، لا بل ما يدعو إلى السخرية هو عدم تردد ​وزارة الدفاع الأميركية​ في الإعلان عن أن هناك 4 أو 5 مقاتلين فقط من الذين دربتهم يحاربون "داعش" على الأرض السورية.

بالتزامن مع ذلك، جاء إنفجار أزمة اللاجئين السوريين في البلدان الأوروبية، مع العلم أنها كانت موجودة منذ بداية الأحداث السورية، لكن اليوم تم التركيز عليها بهدف تحقيق بعض المكاسب السياسية، التي تبدأ من السعي التركي إلى إقامة مناطق آمنة في الشمال السوري، ولا تنتهي مع الرغبة الأوروبية بالدخول على الخط من أجل حجز موقع في التسوية المنتظرة، التي ظهرت بشكل واضح من خلال مسارعة الحكومة الفرنسية إلى الإعلان عن رغبتها في شن غارات على مواقع "داعش" داخل الأراضي السورية، بعد أن كانت تحصر جهودها بالأراضي ​العراق​ية.

على المستوى الإقليمي، كانت المنطقة تشهد أيضاً تحولات كبيرة، تمثلت في توسيع رقعة تهديد الجماعات الإرهابية لتشمل بعض البلدان الخليجية، السعودية والكويت، بالإضافة إلى إنتقال عمليات "داعش" إلى القارة الأفريقية، خصوصاً في ليبيا ومصر وتونس.

هذه الأوضاع، لا تنفصل أيضاً عن إرتفاع منسوب التوتر في الصراع بين كل من السعودية وإيران، بسبب الموقف من الأحداث اليمنية بشكل رئيسي، ومن ثم حادثة التدافع في منى خلال إحياء مراسم الحج، ناهيك عن المواجهات التي تشهدها الأراضي التركية بين الحكومة المركزية وعناصر "حزب العمال الكردستاني".

بوتين والقرار المصيري

في خضم هذه اللحظة المصيرية، وجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الفرصة مناسبة للدخول المباشر في الحرب السورية، بعد أن كان بدأ بالتمهيد لهذا القرار بمروحة واسعة من الإتصالات، من خلال الزيارة التي قام بها ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى موسكو، التي تبعتها زيارة لمدير مكتب الأمن القومي في سوريا اللواء علي مملوك إلى السعودية بشكل سري، بالتزامن مع عودة التنسيق الأمني بين الدولتين السورية والمصرية، وجميع هذه الخطوات كانت تتم برعاية روسية مباشرة.

الخطة الروسية "أ"، كانت تقضي بتشكيل تحالف إقليمي لمحاربة الإرهاب، يضم كلا من تركيا والسعودية والأردن وسوريا والعراق وإيران، لكن الفشل في الوصول إلى نتائج إيجابية دفع بالرئيس بوتين إلى الإنطلاق نحو تطبيق الخطة "ب" التي تشمل توجيه الطائرات الروسية ضربات جوية لمواقع مختلف الجماعات المعارضة على الأرض السورية، من دون الإلتفات لمصالح الدول الإقليمية الراعية لها، بالتزامن مع تشكيل غرفة عمليات أمنية وعسكرية في بغداد تضم كلا من العراق وسوريا وإيران و"حزب الله".

هذا الأمر، يعكس بشكل أساسي فشل الدبلوماسية الروسية في إقناع القوى الإقليمية، المعارضة للنظام السوري، بالدخول في التحالف "المعجزة"، الذي كانت تسعى إليه، وبالتالي إستمرارها في سياستها السابقة التي تقوم على تغذية الصراعات المحلية من أجل تبديل موازين القوى على أرض الواقع.

سوريا المفيدة

لا يمكن القول أن موسكو قررت الدخول في المغامرة السورية من دون القيام بدراسة واسعة لكافة المخاطر التي قد تنجم عنها، فهي موجودة في المشهد منذ اليوم الأول، من خلال تقديم مختلف أنواع الدعم السياسي والعسكري لحليفها الأول في منطقة الشرق الأوسط، أي الرئيس السوري بشار الأسد، لكن في حقيقة الأمر لم يكن لديها هامش واسع من الخيارات.

التطورات الميدانية على الأرض السورية، في الأشهر الأخيرة، كانت تشير إلى نجاح قوى المعارضة السورية، بدعم إقليمي ودولي كبير في تحقيق تحولات في الميدان، تمثلت بالسيطرة على كامل محافظة إدلب والإنطلاق منها في هجمات نحو منطقة سهل الغاب في ريف حماه، بالإضافة إلى السعي إلى إحداث تحولات في الجبهة الجنوبية، المحاذية للحدود الأردنية والإسرائيلية.

في المرحلة الحالية، الكل يتحدث عن فشل الهجوم على الجبهة الجنوبية، عبر الأراضي الأردنية، الذي كان مدعوماً من الحكومتين السعودية والأميركية، في تحقيق أهدافه لكن السؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بمصير الأزمة السورية لو نجح هذا الهجوم، الذي ترافق مع محاولات حثيثة لإحداث تبدلات في محافظة السويداء.

إنطلاقاً من ذلك، وجد الرئيس بوتين أن لا بديل عن التدخل الفاعل من أجل دعم حليفه، خصوصاً أن المزيد من الخسائر كانت لتؤدي إلى نتائج كارثية، ليس فقط على سوريا بل على الأمن القومي الروسي أيضاً، نظراً إلى تواجد مقاتلين من دول الإتحاد السوفياتي السابق على الأرض السورية.

بالإضافة إلى المصالح الأمنية الروسية في سوريا، هناك مصالح أخرى لا يمكن إهمالها بأي شكل من الأشكال، متمثلة بالحفاظ على القاعدة العسكرية المتواجدة على شواطىء البحر المتوسط، ناهيك عن الإكتشافات النفطية والغازية الهامة في البحر السوري.

مصطلح "سوريا المفيدة"، بات هو الطاغي اليوم على المستوى العالمي لدى الحديث عن التطورات الميدانية، وهي تضم بشكل أساسي المحافظات الساحلية، بالإضافة إلى العاصمة دمشق وكل من حمص وحماه وحلب، من دون أن يعني ذلك أن المواجهة مع الجماعات المسلحة سوف تنتهي عند تأمين هذه المناطق، لكن البداية من المفترض أن تكون من خلال تأمينها، وبعد ذلك يمكن الإنتقال إلى الساحات الأخرى، خصوصاً في ظل التشديد الروسي والسوري المشترك على ضرورة بقاء سوريا موحدة، على عكس المشاريع الأميركية التي يدخل في صلبها السعي إلى التقسيم على قاعدة الأقاليم المذهبية والعرقية أو الفيدرالية.

بوتين وعامل الوقت

من حيث المبدأ، أساس نجاح العمليات الروسية يتوقف على عامل الوقت، خصوصاً أن موسكو تسعى إلى التأكيد بأن هزيمة الإرهاب ممكنة وبأن التحالف الدولي لم يكن يقوم بالجهود اللازمة، وبالتالي عليها أن تثبت قدرتها على تحقيق إنجازات خلال وقت قصير، لا سيما أنها تمتلك القوات البرية الحليفة القادرة على الإستفادة من الضربات الجوية، أما الفشل في تحقيق ذلك يعني الغرق في المستنقع السوري، في تكرار للمشهد الأفغاني أيام الإتحاد السوفياتي السابق، وبالتالي الدخول في حرب إستنزاف طويلة، خصوصاً إذا ما اضطرت إلى إرسال قوات برية في مرحلة لاحقة، لا سيما أن أغلب الفصائل والجماعات، التي تدور في فلك تنظيم "القاعدة"، تسعى إلى إعادة تنظيم نفسها عبر التوحد تحت لواء جبهة "النصرة" الإرهابية.

على هذا الصعيد، من الضروري ملاحظة المشهد العالمي مع بدء الغارات الروسية، التي تزامنت في يومها الأول مع إنعقاد العديد من الإجتماعات في نيويورك، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث كان واضحاً حجم الإرباك الذي سيطر على مواقف معظم القوى الإقليمية والدولية، خصوصاً أن ​روسيا​ لم تتأخر في ترجمة خطاب الرئيس بوتين، الذي تزامن مع طلب سوري رسمي من أجل التدخل في الحرب، ما يعني وضع الجميع أمام أمر واقع لا يمكن تجاوزه.

بشكل أساسي، بدت الولايات المتحدة مربكة بين خطابين، الأول عسكري عبّرت عنه وزارة الدفاع من خلال الدعوة إلى التنسيق مع موسكو لمنع وقوع الصدام في الأجواء السورية، والثاني سياسي عبر عنه وزير الخارجية جون كيري، الذي كان يتحدث عن أن الضربات الجوية الروسية لن تؤدي إلى أي نتيجة تذكر، قبل أن يجتمع ووزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف، حيث شدد على أهمية التنسيق وتوحيد الجهود.

على المستوى الأوروبي، كان من الواضح القلق من الدور الروسي المستجد، لا سيما على مستوى وزارة الخارجية الفرنسية، التي تحدث رئيس دبلوماسيتها لوران فابيوس عن شروط تتضمن عدم القبول بأي دور للرئيس السوري في المرحلة الإنتقالية، في وقت كانت موسكو تؤكد على أهمية دوره، من خلال الإعلان مراراً عن أنها لا تعترف بأي قوات مسلحة لا تخضع لسلطته.

أما على المستوى الإقليمي، يبدو من الواضح أن الدول الخليجية، لا سيما السعودية غير مرتاحة إلى الدور الروسي، بالرغم من محاولات التنسيق معها في بداية الأمر، في حين يبدو من الواضح أن هذه الغارات تقضي على الحلم التركي في إنشاء مناطق آمنة في الشمال السوري، لكن السؤال البارز هو هل كان هذا الأمر منسقاً مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خصوصاً أنه كان في زيارة رسمية إلى موسكو قبل أيام قليلة، وهل حصل إتفاق على منع إقامة المناطق الآمنة مقابل عدم السماح باقامة كيان كردي على الحدود السورية التركية في المستقبل؟

سوريا والمستقبل

في محصلة المشهد الحالي، هناك تحولات كبرى لا يمكن تجاوزها، يأتي على رأسها الدور الروسي المستجد، الأمر الذي يطرح مجموعة من الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها في الوقت الراهن، بانتظار ما تحمله الأيام المقبلة، ومن ضمنها: هل تعزيز العمليات العسكرية الروسية يفرض الحل السياسي أم يقضي عليه؟ هل ستسلم الدول التي صرفت الأموال الطائلة على قوى المعارضة السورية لفشل مشروعها بهذه السهولة؟ ما هي ردة الفعل المحتملة في حال رفضت الإستسلام؟ وكيف ستتعامل الجماعات الإرهابية مع هذه التحولات؟ إلا أن النقطة المفصلية تتوقف عند إمكانية نجاح موسكو في تحقيق نجاحات سريعة من عدمها، وأيضاً التوافق مع الولايات المتحدة حول المرحلة المقبلة.