منذ ان ترك ميشال سليمان سدة الرئاسة مكرهاً بعد رفض طلباته المتكررة بالتمديد ورغم كل الضغط الذي مارسته السعودية وحلفاؤها في لبنان، ينشط "تيار المستقبل" على خط نسف كل الجهود الداخلية اللبنانية لمنع اي حلول ولعرقلة اية تسوية او مخرج يبقي السلطتين التنفيذية والتشريعية عاملتين بحدهما الادنى وكما يقتضي الدستور لإدارة الشغور الرئاسي الذي يفترض ان يكون موقتاً وليس دائماً او مزمناً كما يجري اليوم. التكتيك الذي يعتمده "المستقبل" للتعطيل وفق عاملين على خطوط التواصل اشبه بلعبة الدوائر التي تبدأ صغيرة لتتسع مع كل حلقة لتبلغ حجمها الاقصى في النهاية. وعند الحلقة النهائية او الجدار- العقبة يكمن "مربط الفرس" او فك العقدة بالحل.

احدى هذه الدوائر التي يعتمدها "تيار المستقبل" بإيعاز سعودي مباشر هي لعبة توزيع الادوار بين "مستقبلي" وآخر بين الحريري الابن وفؤاد السنيورة الوصي عليه. فبعد ان كان السنيورة وزير المالية الاسبق يحمل ملفاته كل مساء ليوقعها من رئيسه المباشر الرئيس الشهيد رفيق الحريري وينتظر ساعات في بهو قصر قريطم ليأتي دوره ويقابل الرئيس الشهيد، صار الحريري الابن ينتظر لساعات في غرف البهو الاميري والملكي لدى مقابلة احد اولياء النعمة من العائلة الاميرية والملكية السعودية. فما اشبه الامس باليوم حيث يمارس رئيس كتلة المستقبل لعبة العصا والجزرة ولعبة الدوائر المتعددة الابعاد مع كل "المستقبليين" في الكتلة والحزب ومكتب الرئيس سعد الحريري وعمته النائب بهية الحريري. فمن صيدا يمارس "فن التحكم" بمشاريع صيدا الانمائية والاقتصادية على ضآلتها عبر رئيس بلديتها الحائر بين ولائه لمجدليون من جهة ولبيت الوسط الخالي من نزيله من جهة ثانية وبين سطوة السنيورة الصيداوية والمستقبلية عليه.

لعبة الداوئر هذه بلغت ذروتها في تفكير السنيورة السياسي لايهام الرأي العام اللبناني عموماً والمستقبلي والسني خصوصاً انه توزيع ادوار داخل "المستقبل" وانهم يلعبون "الغميضة" مع العماد ميشال عون وتضييعه في زواريب باريس وقريطم وبيت الوسط من الرئاسة الى صفقة ترقيات العمداء الى آلية الحكومة وتشريع الضرورة الى ملف الكهرباء اليوم والفساد ووزارة الاتصالات وغيرها من الملفات التي تنبش تباعاً لنفض يد "المستقبل" وفريقه منذ العام 1992 من الفساد وتشعباته.

لا توزيع ادوار داخل "المستقبل" بواقع الامر وفق هؤلاء المطلعين، انما تراجع "نهج الاعتدال" الازرق الذي كان يقوده سعد الحريري بالتنسيق والاشراف من الملك السعودي الراحل عبدالله وفريقه الاستشاري الذي كان ميالاً اكثر الى فض النزاعات الكبرى بتسويات جزئية او صغرى والمثال على ذلك إدارة الشغور الرئاسي بعد رفض "حزب الله" التمديد لميشال سليمان بحكومة شبه إئتلافية ولو غير متجانسة وتحمل صواعق التفجير من داخلها.

اليوم تبدو الصراعات داخل العائلة الحاكمة في السعودية طافية على السطح بين ورثة لملك راحل عبد الله ويمثل آخر سلالة المحافظين او حراس العائلة الوهابية القديم والملك سلمان آخر وريث هذه السلالة وهذا الصراع يكمن في من يرث الحصة الاكبر من ورثاء الجيل الثاني وما سيرثونه من الجيل الاول. وهذا الصراع على السلطة والنفوذ داخل العائلة الحاكمة في المملكة ينعكس تخبطاً لم تشهد له السعودية مثيلاً، ولا سيما في مأساة الحج الاخيرة فلم تكد تنتهي كارثة سقوط الرافعة في الحرم المكي مع بداية شعائر الحج الرسمية حتى اتت مأساة تدافع مشعر منى وما خلفته من ارقام مهولة في عداد الحجاج من ضحايا قتلى وجرحى ومفقودين. وبدت السلطات السعودية خلال الازمتين مربكة ومشوشة وغير قادرة على احتواء المشكلة ومعالجتها بالطريقة المناسبة. وربما يكون لدخول عامل السياسة وعدد الضحايا الكبير وعدد الحجيج المليوني واعمال التأهيل وتوسعة مرافق الحج المقدسة هي وراء هذا الارباك والتخبط والذي ادى الى هذه المصيبة الكبرى.

وبعيداً من عدد الضحايا الكبير والدبلوماسيين الايرانيين الاربعة الذين قضوا في التدافع وابرزهم سفير ايران السابق في لبنان غضنفر ركن آبادي، يبدو التشدد السعودي واضحاً من إدارة ملف ما بعد الكارثة وطريقة التعاطي الفوقية مع السلطات الايرانية ما اجبر الاخيرة على رفع سقف التهديد الكلامي والانتقاد السياسي الى مستوى مرشد الثورة السيد علي خامنئي. الفوقية والاهمال والتشدد والتعنت ظاهرة تمتاز بها الادارة السعودية الجديدة التي تتخبط اليوم في اليمن وتتصارع مع ابناء جلدتها من الخليجيين على ريادة مجلس التعاون وتسعى الى عرقلة كل دور ايراني- روسي لاي تسوية في سورية. ومع الترقب والحذر الذي يلف التدخل الروسي الميداني والجوي على ارض سورية وما يمكن ان يخلفه من نتائج إما الدفع بالتسريع نحو حل سياسي وتسوية مقبولة لكل اطراف الصراع المحلية والدولية وإما الغرق في حرب باردة جديدة على الميدان السوري قد تمتد لسنوات وتسعر الحرب مع دفع الاطراف المناوئة للتدخل الروسي بمزيد من المال والسلاح والعتاد والرجال لاطالة امد الحرب.

لهذه الاسباب كلها تتخوف الاوساط ان يعود القلق الى الساحة اللبنانية وان تطير كل التسويات من تقطيب ازمة النفايات الى طاولة الحوار المترنحة الى ملف ترقيات العمداء التي ستطير حكماً مع الايعاز السعودي للمستقبل وحلفائه المسيحيين من سليمان ونزولا بالتشدد في وجه العماد عون كي يبقى لبنان رهينة تحقيق اي مكسب لن يتحقق في المحيط الملتهب.